الإصلاحيون والمحافظون في إيران جميعهم "براجماتيون"

 

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

 

لا حديث في هذه الآونة خاصة بعد فوز الرئيس جو بايدن بالرئاسة الأمريكية وقرب الانتخابات الإيرانية وترقب العالم باحتمال عودة الأطراف إلى الاتفاق النووي الموقع بين إيران ودول خمسة زايد واحد عام ٢٠١٥م، والذي أعلن الرئيس الأمريكي الجمهوري السابق ترمب نقضه والإطاحة به مع عدم التزام الدول الأوروبية خاصة الموقعة للاتفاق بالاتفاق خوفاً من سطوة ترمب الاقتصادية أو خضوعاً لمساومات دول عربية ذات ثروات صناديق سيادية طائلة.

الإيرانيون أولو نفس طويل وصبر شديد في إدارة ملفاتهم مع غيرهم وهم مفاوضون لا يشق لهم غبار ولا يفل حديدهم في حوارات الطاولة المستديرة أو المستطيلة العلنية أو السرية مع أمريكا منفردة أو معها بالإضافة إلى أربعة زايد واحد.

 

 

عشر سنوات من مفاوضات بينهم وحدهم وبين قوى عالمية مُمثلة في خمسة زايد واحد حتى تم الاتفاق على الاتفاق النووي.

ينسج الإيرانيون السياسة أدق من نسجهم السجاد الإيراني ونقشهم عليها أكثر من خلال وضع لمساتهم على مفاوضاتهم مع القوى الكبرى لذا فماوضهم لابد أن يشحذ قدراته وإن كان جمعاً لا فردًا.

من أساليب نسجهم السياسة وحياكتهم الدبلوماسية قدرتهم على صنع حيرة داخل صفوف مفاوضيهم وخصومهم ففي الموضوع الواحد لا يكاد تصريح واحد يتفق مع الآخر فتصريحات مرشد الجمهورية الإسلامية ورئيس الجمهورية ورئيس تشخيص مصلحة النظام ورئيس الشورى وقائد حرس الثورة وقائد الجيش تجعل خصومهم في حيرة من موقفهم الحقيقي في الموضوع الواحد وربما يعتبر ذلك ميزة لهم فن إدارة الأزمات وإرهاق المفاوض فيما يفاوضهم فيه كالاتفاق النووي وسلامة مُفاعلاتهم النووية.

 

 

 

دهاء الفرس وذكاؤهم متوارث وهم ساسة من آلاف السنين ومع ذلك فإنهم يستخدمون الفرامل والكوابح عند بلوغ الأمر الحلقوم أي أقصى حافة الهاوية.

وربما يكون الإيرانيون مدرسة نموذجية في كيفية إدارة الأزمات وطريقة التفاوض، يفككون كل كلمة صادرة عن مفاوضهم كما يمتاز مفاوضهم بالحذر الشديد ولا زلت اتذكر وزير خارجيتهم محمد جواد ظريف عند الاتفاق على اتقافية النووي مع خمسة زايد واحد فإنِّه طار قبيل التوقيع إلى إيران لدقة التشاور ثم عاد وعند قراءة الاتفاق باللغة الإنجليزية أصرَّ على قراءته أيضاً باللغة الفارسية وذلك احتياطاً منه وحذرًا حتى لا يأتي طرف فيزعم أنَّ المقصود بهذه الفقرة كذا وليس كذا.

ومن ملامح ذكائهم السياسي والدبلوماسي أنهم في عهد الرئيس السابق ترمب لم يصعدوا الخطوات العملية والعلمية في شأن الاتفاق النووي بل استمروا عليه وإن قلصوا بعض ما اتفقوا عليه بعد قيام ترمب بنقضه بينما كان خطابهم العسكري عالياً عالياً وذلك لتيقنهم أن ترمب خياره عدم شن الحرب وإنما تجفيف منابع الاقتصاد الإيراني.

يمتصون الصدمات لكنهم أيضاً لا يغمضون العين عن الرد المحسوب العواقب كما فعلوا عند قصفهم قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق وتلك عملية ليست سهلة لأنَّ القواعد والسفارات والقناصل تعتبر كأنها أرض أمريكية فقصفها يعني قصف أمريكا.

وخلال اشتداد بحر عُمان ومضيق هرمز بأساطيل أمريكا فإنَّ قوارب إيران تقترب إلى حد قريب وخطر جدا من سفن أمريكا ولكن دون انطلاق الشرارة وهذا منهم إثبات وجود وفيه منهم إشارة إلى حلفائهم وأنصارهم وأصدقائهم من الدول والمجموعات والأحزاب أنَّ العلاقة معهم تضمن دعمهم وأن إيران لا تنقلب على حلفائها ولا تبيعهم كلاماً وبذلك تضمن رسوخ المكانة ووفاء غيرها لها وإن قلصت الدعم المالي لهم.

وقد تُغامر أحياناً برد واحدة بمثلها خاصة إن تعرضت حدودها لاختراق متعمد ومن ذلك إسقاطها للطائرة الأمريكية ذات المُؤهلات العالية والقيمة العالية عندما دخلت حدودها ولم يأمر الرئيس السابق ترمب بالرد.

 

 

الآن وبعد وصول الديمقراطيين لإدارة أمريكا غير الإيرانيون الوسيلة فهم يصعدون خطواتهم العلمية والعملية فيما يتعلق بالنووي ويقلصون التزاماتهم وهذا ينم عن براجماتية لديهم، بالإضافة إلى أنهم هم الآن الذين يمارسون الضغوط على الإدارة الأمريكية فالرافضون للاتفاق من مناوئي إيران يضغطون لعدم العودة إليه فلماذا لا تضغط إيران على الإدارة الأمريكية لعودتها إليه والأمر الآخر فالإيرانيون بارعون فهم يدركون أن الرئيس الأمريكي بايدن كان مهندساً للاتفاق ومباركاً له في فترة الرئيس السابق أوباما وهو ميال للعودة إليه لذا فإيران تضغط على الإدارة الأمريكية لتعجيل العودة مخافة استمرار تدخل أطراف أخرى رافضة للعودة وكذلك فإنَّ العقوبات أرهقت إيران.

حجة إيران منطقية إذ كيف تعود إليه سابقة من خرج عنه وهي به مُلتزمة لم تغادره حتى الساعة؟

 

ربما أمريكا لا تود أن تبدو أوَّل من يعود إليه لكبرياء الدولة العظمى ولكن الإيرانيين أيضاً وريثو حضارة وأولو تاريخ غائر في القدم لا يسلمون أمرهم لأحد لذا يرى المحللون أنَّ الحل هو تزامن عودة الطرفين في ساعات محددة وكذلك ضرورة وجود طرف ثالث وقد يكون الطرف الثالث هو ذاته الذي قرب بين الطرفين ودعم توقيع الاتفاق ورعى المفاوضات السرية وتمكن بفضل دبلوماسيته وهدوء سياسته وسرية خطواته ونزعته الإنسانية ورفضه لأشكال الفتن والحروب قد يكون هذا الطرف هو القدير على الجمع بين الطرفين كما جمع بينهما سابقا وهذا الطرف قد يكون عربيا.

حاليا كثرت التحليلات بشأن العودة للاتفاق النووي فإسرائيل ودول عربية رافضة لعودة أمريكا إليه وضاغطة من أجل ديمومة الخنق الاقتصادي وتجفيف منابع إيران المالية ولا يستبعد أن الدول العربية الرافضة لعودة الغرب لتطبيق الاتفاق النووي أن تقوم بالمباركة والتهنئة إذا عادت الأطراف إلى ذلك الاتفاق.

 

 

عموماً إذا تأخرت أمريكا عن العودة للاتفاق بداية أو تزامناً فإن هذا يعني قرب الانتخابات الإيرانية ومغادرة الرئيس روحاني الإصلاحي دفة الحكم إذ ولي أمر إيران ثماني سنوات والمحافظون يتحفزون ويحشدون أمرهم لهذه الانتخابات والبعض يتخوف من صعودهم ما يعني دخول الاتفاق النووي مرحلة الموت السريري وقد يكون هذا التخوف في غير محله من جهة الإيرانيين فالمحافظون أيضاً براجماتيون وإن اختلفوا عن الإصلاحيين فسقوط الاتفاق النووي رسميا يعني مزيدا من التوترات وبلوغ حافة الهاوية والديمقراطيون في أمريكا خاضوا اشتباكات عسكرية أكثر من غيرهم رغم نزعتهم ودعوتهم لما يوصف بحقوق الإنسان والحريات.

وكذلك فإنَّ الناس في إيران العامة ورجال المال والأعمال بل والدولة بأسرها تحتاج لسيولة ومليارات الدولارات فكيف سيسير المحافظون الدولة دون رصيد شعبي ودون اقتصاد واقف على قدميه؟. لذلك لن يدفعوا إلى الخروج من الاتفاق ما لم تتأثر الإدارة الأمريكية بالضغوط من بعض القوى العربية وإسرائيل.

 

 

الإيرانيون محافظون وإصلاحيون يطبخون على نار هادئة قلما يصرخون ولا أدل على ذلك من مفاوضات خاضوها عشر سنوات وحدهم مع جمع خمسة زايد واحد فحققوا مرادهم فتم التوقيع.

عموماً الدول ذات السياسة الواعية تدعم العودة للاتفاق لأنه يحقق سلام المنطقة ويجنب بحر عُمان وبحر العرب ومضيق هرمز والخليج العربي وباب المندب منعطفات غير محمودة، كما أنَّ العودة للاتفاق هي منفعة لدول الخليج لحاجتها لتصدير نفطها وكذلك استمرار التلاسن اللفظي أو العقوبات ضد إيران لن يؤثر على إيران فقط بل على المنطقة بأسرها.

وختاماً ليس من صالح دول المنطقة الضغط من أجل إضافة شروط جديدة على الاتفاق لأمور منها أن دول المنطقة تتدفق عليها أنواع السلاح من أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا وغيرها ولعلها في تسلحها أكثر من تسلح إيران فهذه الاشتراطات قد تجعل إيران تشترط بسط المفاوضات عن جميع أنواع التسلح في المنطقة وكذلك إن أريد بحث وقف ما يسمى بتدخلات إيران في سوريا ولبنان واليمن فيمكن أن يفتح هذا مجال مناقشة ذلك الكم الهائل من دول المنطقة والعالم الذي يتدخل في سوريا وليبيا والعراق ولبنان واليمن ومن عشرات أجهزة الاستخبارات الشرقية والعربية والغربية في تلك الأقطار الآنفة الذكر.

إنَّ العقل السياسي يحتم علينا دعم استمرار الاتفاق لا تقويضه وإن مصالح دول المنطقة تكمن في إقامة علاقات حسنة مع إيران فهي جارة موجودة في المنطقة لا زاحفة إليها ولا قادمة من بعيد نحوها.

الأجنبي باقٍ ما بقيت مصالحة وما بقي برميل نفط في المنطقة وهو قد يُغادر المنطقة نحو بلاد القوقاز وأفريقيا الصاعدتين نفطياً ومن يبقى في المنطقة إيران ودول المجلس وبقية الدول فمن هنا فإنَّ العقل السياسي يدعو إلى تشجيع العودة للاتفاق ونسج علاقات حسنة مع إيران.

ومن الدروس المستفادة أيضاً أن دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة أو متفرقة قد تخذل من يظن أنها له حليف وأن الوثوق بها خطأ جسيم ويكفي الآن أن الدول الأوروبية صارت ممن يُعرقل عودة بايدن للاتفاق من خلال إضافتها اشتراطات لم ينص عليها الاتفاق فالخلاصة يكفي فقط التعامل مع الغرب من باب العلاقات الدبلوماسية والمصالح المتبادلة.