شاب أصيل من نزوى

 

عبدالله الفارسي

 

الذي يُدهشك في المجتمع العُماني هو أخلاقه، هذا ليس كلامي، هذه شهادة حررها كل من زار هذا البلد الجميل بأهله وناسه.. ربما هذه رحمة الله بهذه الأرض الطيبة؛ حيث فقدنا مُعظم ثرواتها وخيراتها، وبقي لنا ثراوتنا الأخلاقية وفضائلنا السلوكية، وأرجو من الله ألا تسرق منِّا وألا نفقدها.

هذه حادثة حدثت معي ذات صيف بعيد بطلها شاب من ولاية نزوى، ولاية الأدب والدين والمحبة، نزوى بيضة الإسلام ومنارة العلم والسلام. قررتُ في صيف العام 1999 زيارة المنطقة الداخلية فكانت المرة الأولى التي أزور فيها هذه المنطقة وأتجول فيها استمتع بمنظر جبالها الشاهقة وقلاعها الراسخة وأستنشق عبقاً من أخلاق أهلها الرائعة.. كنت أقتني سيارة قديمة أترنح فيها أنا وأطفالي، كانت تؤدي مهماتها بكل وفاء وإخلاص، كانت بالنسبة لي أوفى من صديق، وأرق من حبيب. لكن الانتكاسات العاطفية واردة ومتوقعة في هذه الحياة!

فجأة وفي منتصف الطريق بين إزكي ونزوى قررت سيارتي أن تتعطل وتتوقف، ارتفعت حرارتها فجأة، كما ترتفع حرارة صدري فجأة، فأوقفتها جانباً وفتحت غطاء مكينتها، وتركتها تفور وتلهث على مهل، وجلست بجانبها كمُواطن فلسطيني يقف على أطلال بيته المهدم، لا أدري كم من الوقت مضى عليَّ وأنا بتلك الحالة المزرية، عبرتني سيارات كثيرة دون أن تنتبه لي ودون أن ألتفت إليها.. حقيقة كنت في حالة نفسية تعيسة عاجزاً عن فعل أي شيء، حتى عن الوقوف والتلويح لأيِّ سيارة قادمة.

فجأة توقفت أمامي سيارة بيضاء، أتذكرها جيدًا كما أتذكر رسالة شركة المياه بالأمس والتي تُحذرني من تراكم مُستحقاتها المائية، وإلا سيقطعون عني الماء، وسيحرمونني الاغتسال من الجنابة!!

أتذكرها جيداً كانت سيارة صني جديدة وجميلة نزل منها شاب وسيم خجول، لم يقترب من سيارتي خوفاً من أن يخدش حياء أولادي المتكدسين بالسيارة كأنهم أرانب برية.. تقدمت إليه وتصافحنا، فقال لي: دعني ألقي نظرة على السيارة، فقلت له: تفضل ألقي نظرة. فأقترب من السيارة ونظر نظرة ثاقبة في بطنها وقال مباشرة تحتاج إلى كراج ضروري، وبدون مُقدمات ودون تردد قال: "لي خذ سيارتي ودعني اتصرف في سيارتك لابُد من حملها إلى نزوى".

حقيقة فاجأني بتصرفه هذا، كيف تُعطيني سيارتك الجديدة وأنت لا تعرفني!! كيف تعاملني بهذه الثقة وأنت تراني لأوَّل مرة!!

قال الشاب: دع عنك هذه التساؤلات الآن وأنزل أولادك من السيارة بسرعة فالحرارة شديدة وخذ سيارتي، وسنلتقي بعد العصر أمام قلعة نزوى هل تعرف مكانها؟ قلت له: أنا لأول مرة أزور نزوى ولكني لن أعجز عن الوصول إلى قلعتها الأشهر.

لم يعطني فرصة للنقاش والثرثرة المُحببة لي، فأخرج من سيارته كيساً صغيرًا، لم يكن أي منا يملك هاتفا محمولا في ذلك الوقت، كانت الثورة التدميرية للهاتف المحمول في بداياتها الأولى.

ابتعد الشاب مسافة 10 أمتار عن سيارتي حتى يتيح الفرصة لزوجتي وأطفالي ركوب سيارته.. لم أستطع النطق.. تلعثمت.. ثم بعدها خرست تماماً من موقف هذا الشاب الأصيل.

تحركت بسيارته الجديدة، كانت باردة مُريحة رائحتها زكية مُنعشة، تنفس أولادي الصعداء، وتغيرت ملامح وجوههم المحتقنة من حرارة الشمس. وأنا أقود سيارته متجهاً إلى نزوى، فكرتُ في ذاك الشاب الأصيل الطيب، ماذا سيفعل؟ وكيف سيتصرف في تلك الحرارة اللافحة؟ وكيف سيحضر سيارتي التعيسة إلى نزوى؟

فشكرته من أعماقي، وطلبت من أطفالي أن يدعوا له بالغفران والبركة، وتوجهت إلى نزوى، أبحث عن مطعم هادئ نستريح فيه.

وبعد الغداء ذهبنا إلى الاستحمام في أحد الأفلاج، لا أذكر اسمه كان فلجاً جميلاً نشيطاً وفائضاً، وكأنه منساب من الجنة. غمسنا أجسادنا في ذلك الفلج فبعث الحياة في أجسادنا وحقننا بالنشاط والبهجة، وسكنا في مياهه ثلاث ساعات كاملة.

وبعد العصر ذهبت إلى القلعة منتشياً، مشتعلاً بالنشاط والحماس، ووقفت بجوار القلعة منتظرا ذلك الشاب الأصيل الذي وصل بعدي بدقائق معدودة، فرحت بقدومه، وأبهجتني طلته.

وقلت له ماذا حدث معك طمني؟ قال لي: لن أخبرك بشيء قبل أن تأتي معي. أضطررت للانصياع له،والذهاب إلى بيته.

فأدخلني بيته وأكرمني بقدر طاقته واستطاعته، وكاد أن يُجبرني على المكوث للعشاء لولا أنني اعتذرت له اعتذارا هائلا ملحاحا معللا اعتذاري بارتباطي على العشاء مع صديق من ولاية الحمراء، فأطلق سراحي بصعوبة بالغة.

وعند باب بيته سلمني مفاتيح سيارتي، وقال لي اذهب فيها الآن إلى مكة المكرمة فلن تخذلك أبداً. قبضت مفتاح سيارتي من يده وسألته: لماذا تصرفت معي بهذه الطريقة العجيبة؟

فقال لي بصوت متزن هادئ وبكل سلاسة وبدون تلعثم: علمني أبي ألا أتردد في مُساعدة أي إنسان في الطريق.. الواجب الأخلاقي يُحتم عليَّ مساعدتك.

فقلت له: غفر الله لوالديك.

وصدق الشاعر العربي حين قال: وينشأ ناشئ الفتيان منِّا // على ما كان علمه أبوه.

شكراً لك أيُّها الأصيل، وشكرًا لوالديك، وشكراً لنزوى التي أنجبتك.