المعلقة الأولى من معلقات بابل

أنيسة الهوتية

تعقيباً على آخر مقالاتي "معلقات بابل الوهمية"، سألني أحد القُراء: ما هي مُعلقات بابل؟ فأجبته: بأن الأصل هي حدائق بابل المعلَّقة من العَالم القديم، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع؛ كونها أول تجربة مؤرخة للزراعة العامودية. ولأنها من العجائب، فإنَّنا نُشبه الأمنيات والتطلعات العجائبية أو شبه المستحيلة بمسمى "معلقات بابل".

وقال لي آخر: اشكُري ربكِ أنكِ تعملين؛ لأن الوظيفة أصبحت عُملة نادرة، والشعب يبكي باحثاً عن وظيفة يسترزق منها لأجل لقمة العيش. فأجبته: لَم تذهب بعيداً عن مقصدي في المقال، فقط اقرأ بِعُمق ولا تقرأ سطحيًّا! وإني أحمد الله وأشكره على لقمة عيشي التي رزقني إياها بوسيلة العمل، وتختلف أنواع الرزق وتختلف وسائله. أما بخصوص العمل، فالأغلب يعتقد أنَّه يعمل ليعيش، لكنه في الأصلِ يعيش ليعمل! مثل لُغز البيضة والدجاجة! مَن جاءَ مِنهُما أولاً!

فقد كَانَ الإنسانُ القَديم يَأكُلُ ويَعملُ لِيعيش ويُعَيشَ أبناؤهُ ومَن هُم في عُهدَتِه. مِن خِلال أعمالٍ كثيرة أبسطها الصيد، وجمع ثمار النباتات، ومِن ثَمَ تطوروا إلى الزراعة الشخصية في أراضٍ مخصصة، وأتبعوها بالعَمل ببناء حظائر للحيوانات الداجنة واللبونة. ولكن كونه إنسانًا فبطبعه هو يطمح ويطمع للمزيد، وكُلما امتلك أحدُهُم شيئاً أفضل عن غيره سعى الآخرون لامتلاك مثله أو أفضل منه، وبدأ السباق الزمني في تطوير الممتلكات الشخصية إلى أن وصلنا إلى هُنا.

وهُنا.. في زَمَنِنا الحاضر، أصبح العِلمُ والعَملُ الوظيفي هما أساسُ التطور، فصارَ الطِفل يُربى على قناعةِ أنه يجب أن يدرس ليعمل ويعيش، وكأن الدراسة مِفتاحٌ للعمل فقط! ولا ينورونهم بأن العلم يتغلب على الجَهالة، وأن العِلمَ نُور، وعندما يمتلكُ هذا النور سيرتقي بنفسه وبوطنه! ولكن للأسف الوجه الآخر للعملة يتحكم بها أكثر وهو بأنه عليه أن يدرس إلى الشهادات العُليا لينال وظيفةً عُليا حتى يعيش حياةً عُليا! وهُنا يدخل ذلك الطفل الصغير في دوامة التحدي ودهليز الاجتهاد والتوتر من أول يوم له في الحضانة؛ سَعياً للوصول إلى العُليا!

وأصبح الهدف الأساسي للإنسان هو العمل، وليس العيش! وتراهُ يعملُ ويعملُ ويعملُ حتى يُستَنفد وتنتهي صلاحيته، ثُم يُستبَدل في العمل بِمجهودٍ جَديد شديد التركيز في عُصارتهِ الأولى! فيُصبح مُتقاعداً بِلا عمل، ورغم ثروته المالية التي اشتراها بجهده البدني والعقلي والذهني، إلا أنه لا يستطيع أن يعيش لأنه تطبع بالعمل! فيحاول جاهداً أن يتعلم مِن الصِفر كيفية العيش والسعادة بالأشياء البسيطة التي لطالما كانت تحوم حوله، غير المال، والجاه، والممتلكات، والمظاهر التي لربما يمتلكها أحدنا بوفرة وكثرة، لكنه لا يزال يفتقر إلى السكينة والسعادة وراحة البال! وهذه على الأقل نهاية سعيدة. أما النهاية الحزينة، فهي أنه سيصرف أمواله في علاج أمراضٍ اكتسبها من العمل الجهيد، وأمراض نفسية تطورت إلى عضوية، فأكلت منهُ ونهشته، ولم تُبقِ له من الحياة شيئاً. والنهاية الأشد حُزناً أنهُ لم يوفر قِرشاً أبيضَ لمثل هذا اليوم الأسود من عمله! أما النهاية الكئيبة، فهي أنه يموت ويأتي له ورثة "رغود" يلهُون بذلك المال في بضعة أيامٍ وليال وتنقضي معهم، أو يبقى هذا المال فتنة لورثته يتنازعون به ويمزقون الأرحام!

وأستثني من هذا التشبيه كل إنسانٍ مجتهد يعمل ليل نهار اضطراراً لأجل أن يوفر الحياة الكريمة لأهله. ولكن يتشابه كلاهما بأنهما لا يعملان للعيش بل يعيشان للعمل، وعلى حسب نياتهم يُرزقون ويُؤجرون.

أمَّا الفائز في السباق، فهو من يعمل بِحُب وشغف، وتشغيل مشاريعه تحقيقاً لأمنياته. وإن لم يسترزق المال الكثير! إلا أنهُ يعملُ ليعيش ويستمتع بجهده وحياته.