الحرب ضد الإنسانية

حاتم الطائي

"حرب اللقاحات" تستعر بين الدول الغنية.. والفقراء عُرضة للحرمان

الحصول على اللقاح من حقوق الإنسان.. والمنظمات الدولية مطالبة بالتدخل

ضرورة وضع اتفاق عالمي مُلزم لضمان التوزيع العادل للقاحات

ربما لم يكُن عام 2020 أشد قسوة من أيِّ عام آخر، فرغم أنَّه العام الذي شهد تفشي وباء كورونا "كوفيد-19" وما تبع ذلك من عمليات إغلاق عام أو جزئي في أغلب دول العالم، فضلاً عن سقوط ملايين الضحايا بين مصابين ووفيات، إلا أنَّ العام 2021 ينبئ بوضع أشد قتامةً، ليس فقط من حيث تكرار نفس السيناريو وتتابع الأحداث كأحجار الدومينو، ولكن أيضاً من حيث النزعة غير المسبوقة لسحق الإنسانية وطحن الدول الفقيرة، فيما بات يُعرف بـ"حرب اللقاحات".

تلك الحرب ليست فقط حربًا على أولوية الحصول على التطعيم في معركة البقاء أمام كورونا، وليست حرباً بين دول غنية تملك التكنولوجيا والمال، ودول أخرى فقيرة لا تملك التكنولوجيا ولا المال! بل إنها حرب ضروس طرفاها هما الدول الغنية نفسها، دول تملك كل شيء، من الأموال اللازمة لشراء الجرعات إلى سلاسل التوريد إلى المخازن المُؤهلة لحفظ ملايين الجرعات ونقلها بمأمونية، إنَّ حرب الكبار التي تسحق الصغار والمهمشين، من الدول الكادحة التي انزلقت إلى براثن الفقر نتيجة لسياسات الإفقار العالمية التي تتبناها المؤسسات الدولية والكيانات العالمية التي تُدير العالم، من أجل تحقيق مصالحها الذاتية لا من أجل سعادة الإنسان ورفاهيته. إنِّها الحرب المستعرة بين دول ما يسمى بـ"العالم المُتقدم"، الذي لا يعرف سوى "قانون الغاب" ولا يحترم إلا أصحاب "العضلات السياسية" ويرفع القبعة لمنظومة الرأسمالية المتوحشة، تحت مزاعم "العرض والطلب"، وافتراءات "السوق الحُرة". فمن يتعاركون الآن على اللقاحات هم أنفسهم الدول التي صنعت اللقاحات أو تتشارك في عمليات الإنتاج، وخير دليل على ذلك ما حدث قبل أيام بين المملكة المتحدة- حيث ابتكر العلماء لقاح "أوكسفورد- أسترازينيكا"- والاتحاد الأوروبي، الذي يضم بلجيكا والتي تستضيف مصنعاً لهذا اللقاح. وخاض الجانبان- البريطاني والأوروبي- معركة غير أخلاقية، حيث قرر الاتحاد الأوروبي عدم السماح بخروج أية شحنات من اللقاح مُتهجة إلى بريطانيا، بحجة أنَّه الأحق بهذه الجرعات، فقد أبرم عقوداً ودفع ثمنها!! بينما المملكة المتحدة ترى أنَّ هذا اللقاح "بريطاني الأصل" ولذا فإنِّها أولى وأحق به!

الحق أنَّ الأمم المتحدة علقت على تلك الحرب، وقالت إنَّ العالم يمر بأزمة أخلاقية غير مسبوقة، وذلك مع تصاعد وتيرة المعركة العالمية للحصول على اللقاح. ومن المُؤسف أنَّ هذا الأمر يُعيد إلى الأذهان ما شهدناه في بداية الجائحة، عندما تكالبت الدول على المستلزمات الطبية، التي لم تكن تكفي أبداً كل سكان العالم، مثل معركة الكمامات، ومعركة أجهزة التنفس والتي وصلت لمستويات يندى لها الجبين، حتى إن دولاً صادرت واستولت على سفن في عرض المحيطات كانت تحمل كمامات ومعدات طبية تستخدم لمُواجهة الوباء.

إذن نحن أمام حرب غير أخلاقية أطرافها دول وحكومات لطالما تشدقت بحقوق الإنسان وزعمت أنها تدافع عن الكرامة الإنسانية وأنها ترفع لواء الأخلاق الحميدة، بيْد أنَّ الواقع برهن عكس ذلك، وأكد المخاوف المسبقة التي تحدثت عن صراعات عنيفة بين الدول من أجل الحصول على اللقاح.

لكن بصيصاً من الأمل يضيء هذا النفق المظلم، مع بدء توزيع لقاحين أنتجتهما الخبرات الصينية، ولقاح روسي أنجزه العلماء هناك، فهل يكون الخلاص من الشرق هذه المرة وليس من الغرب "المتقدم"؟!

الإجابة على هذا السؤال تدفعنا للتساؤل أولاً عن طبيعة الأهداف التي تسعى إليها الصين وروسيا من توزيع إنتاجهما. المؤكد أنَّ كلا منهما يُريد إثبات تفوقه العلمي في هذا المضمار، والحق أنَّ العلوم والتقنيات في كل من الصين وروسيا شهدت تقدماً غير مسبوق، وباتت الجامعات الصينية والروسية تنافس البريطانية والأمريكية، من حيث الجودة الأكاديمية أو التميز البحثي والمعرفي، وكذلك التطبيق العملي. وكلا البلدان أعلنا في بداية الجائحة عن نيتهما إنتاج لقاح مضاد لوباء كوفيد-19. ولذلك أتوقعُ أن تتسابق الدول الراغبة في الحصول على اللقاح من هذين البلدين، في ظل التنافس المحموم غير المحمود بين الدول الكبرى على اللقاحات الأمريكية والبريطانية. وثمَّة فرص أكبر لانتشار اللقاح الروسي في أنحاء أوروبا، رغم الخلافات القوية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، لكن الخطوة التي اتخذتها دول المجر بشراء كميات من اللقاح الروسي من شأنها أن تشجع دولاً أخرى- لاسيما في الجهة الشرقية من الاتحاد وهي عادة دول أقل ثراءً من دول الجهة الغربية- على شراء اللقاح الروسي.

لكن لماذا تندلع تلك الحرب والجميع يعمل أنَّه لايُمكن أن تنجو دولة بمفردها من هذا الوباء؟ الإجابة هنا عنوانها الاقتصاد، فالاقتصاد هو المُحرك الأول للحروب، سواء كانت بالذخيرة والدبابات، أم باللقاحات والأدوية! فبريطانيا التي أشعلت فتيل حرب اللقاحات تسعى لتطعيم 70% من شعبها قبل حلول الصيف، وأمريكا ترغب في إتمام ذلك قبل نهاية العام الجاري، ليس من أجل وقف عداد الموتى أو منع إصابات يومية بالآلاف أو عشرات الآلاف، بل لسبب آخر وهو التعافي من الوباء وتحقيق النمو الاقتصادي. خاصة وأنَّ التقديرات تشير إلى أنَّ تطعيم العالم بأكمله يستغرق 7 سنوات وفق وتيرة التطعيم الحالية؛ بل إنَّ مفاجأة أخرى تتكشف لنا وهي أنَّ 84 دولة حول العالم من الدول الفقيرة، لن تتمكن من تحصين مُجتمعاتها قبل عام 2024، والمقصود بالتحصين المجتمعي هنا تطعيم 60- 70% من السكان، فلنا أن نتخيل أن دولة ما في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا الجنوبية ستظل تُعاني من تفشي وباء كورونا لمدة 3 سنوات من الآن!!

أيُ ظلم هذا؟ وأيُ عدوان تتعرض له الإنسانية؟ ما الذي يمنع أن تُشرف الأمم المتحدة على عملية توزيع اللقاحات، ليكون المعيار الصحي وحماية الأرواح هو المعتمد، لا النهوض بالاقتصاد والخروج من دوامات الركود والكساد؟ لماذا لا تُطلق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني نداءً دولياً من أجل التوزيع العادل للقاحات؟

حقيقة الأمر أنَّ التحالف العالمي للقاحات والتحصين "جافي" أطلق مبادرة كوفاكس، من أجل توزيع اللقاحات توزيعاً عادلاً، وثمَّة وعود من هذا التحالف بتوزيع ما يقرب من 3 مليارات جرعة على دول الاتحاد، لكن أين ضمانات ذلك ونحن نرى دولاً تتقاتل على جرعة لقاح، ودولاً أخرى حصلت على الجرعة الأولى ومنحتها لمواطنيها لكنها لم تحصل حتى الآن على الجرعة الثانية. لذلك لا بديل عن ضرورة وضع ضمانات دولية لتنفيذ مبادرة كوفاكس. وهنا اقترح أن تبادر الدول إلى وضع اتفاق عالمي للتوزيع العادل للقاحات تحت مظلة الأمم المتحدة، على غرار الاتفاقيات الدولية المعروفة والتي وقعتها دول العالم ولا يمكن لأي دولة مُخالفة نصوصها.

وختامًا.. إنَّ الإنسانية اليوم تقف في مهب الريح مع تزايد شدة هذا الوباء، وباتت القيم الأخلاقية للعالم- وخاصة الدول المُنتجة للقاح- أمام تحدٍ غير مسبوق، فإما أن نتحلى بإنسانيتنا ونُعلي من شأنها أو تدسوها أقدام الكبار، ووقتها لن يختلف الحال كثيراً عما قرأناه في الكتب عن معارك إنسان الغاب، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".