جابر حسين العماني
Jaber.alomani14@gmail.com
مِن نِعَم الله العظيمة وعجائبه الغريبة أنْ خلق للإنسان لسانا صغيرا في حجمه، عظيماً في أدائه، لا يُعرف الكفر والإيمان إلا بشهادته، يختلف عن سائر الحواس الخمسة التي سخرها الله لعباده.
فالعينُ لا تعرف من الدنيا إلا الألوان والصور المختلفة، جميلة كانت هي أم قبيحة.
والأذن لا تعرف من الدنيا إلا الأصوات الهادئة والمزعجة.
واليد لا تعرف إلا الأجسام اللينة والخشنة.
وهكذا هي بقية الأعضاء التي سخرها الله عز وجل لخدمة الإنسان.
أما اللسان فهو سيد الميادين، وسلاح المتكلمين، من له الباع الواسع والصيت اللامع، سواء كان ذلك على صعيد الخير أم الشر، فمن حافظ على لسانه حفظه، ومن أهمله وأرخى له العنان ذهب به إلى الجحيم والهلاك والخسران، فاللسان بطبيعته خفيف في حجمه لا يتعب الإنسان في إطلاقه متى ما شاء، فقيل عنه في الأمثال العربية القديمة "لِسَانكَ حِصَانَكَ إِنَّ صِنَّتَهُ صَانَكَ، وَإِن خنْتُهُ خَانَكَ"؛ فمن العقل والحكمة والدراية ضبط اللسان والتحكم به بعقل ودقة وتسخيره لفعل الخيرات.
يميل الإنسان دائما الى إطلاق اللسان وإرخاء عنانه في كل زاوية من زوايا هذه الحياة، لذا حث الشارع المقدس الإنسان على الالتزام بالصمت، فقيل قديماً: "إذا كانَ الكلامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالسُّكوتُ مِنْ ذَهَب".
وقال نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ صَمَتَ نَجَا"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، وقال: "أَمْسِكْ لِسَانَكَ، فإنّها صَدَقةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ".
والآفة هي كل ما يصيبه الإنسان فيفسده في الحياة، وآفات اللسان هي ما نهى عنه البارئ عز وجل، فالإسلام العظيم اهتمَّ كثيراً بتنظيم كلام الإنسان، فكل ما يلفظه من خير أو شر في ليله ونهاره فهو محاسب عليه، قال تعالى: "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ".
الإسلام دعا ولا يزال يدعو بقوة لحفظ اللسان وصونه عن الخوض فيما يُفسده، قال سيد الفصاحة والبيان الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
وزنِ الكلامَ إِذا نطقَتَ ولا تكنْ .. ثرثارةً في كلِ نادٍ تخطبُ
واحفظْ لسانكَ واحترزْ مِن لفظِهِ .. فالمرءُ يسلمُ باللِّسانِ ويَعْطبُ
إن آفات اللسان كثيرة مثل: الكلام بالباطل، والكذب، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والمراء، والمجادلة، وقول الفحش، والسب، والشتم.
واللعن والسخرية والاستهزاء بالناس هي أفعال وأقوال محرمة لا تعود على الإنسان وأسرته ومجتمعه ووطنه إلا بالخيبة والدمار والانحطاط الأخلاقي، سواء خرجت تلك الأفعال والأقوال من لسان الفقير أو الغني، الضعيف أو القوي، لذا كان الحكماء في حكومة النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- يضعون الأحجار على ألسنتهم، فهم لا يتحدثون للناس بشيء إلا إذا عرضوا ما يريدون قوله على عقولهم، أو لا، فيزنون كلامهم ثانياً، ويتوكلون على الله تعالى ثالثاً، فإذا رأوا في كلامهم صلاحاً ونفعاً وخيراً للناس رفعوا الحجارة من على ألسنتهم، وتحدثوا بما يفيد الناس بالحكمة والمنطق والصواب.
فهل يا ترى نستطيع اليوم رؤية تلك الحالات المباركة والطيبة بكثرة كما كانت لامعة في بلادنا العربية والاسلامية؟ ولماذا يتسرع الكثير منا في قول ما يريد بلا دراسة ولا تحقيق ولا تفكر؟ ولماذا يقف اليوم الكثير من المسؤولين في أوطاننا مستغلين مناصبهم وكراسيهم المستديرة ليقولوا ما يحلو لهم بلا حسيب ولا رقيب؟ ولماذا كثرت هفوات بعض أصحاب المناصب المرموقة في بلادنا فجعلت المجتمع يعيش الكثير من القيل والقال؟ ولماذا أصبحت الثرثرة هي السائدة على منطق الحكمة والدراية والتأمل في أمتنا العربية والاسلامية؟
إنَّ كلَّ ما حصل ويحصل اليوم من إضعاف أخلاقي واجتماعي لكثير من أبناء أمتنا العربية والإسلامية هو ربما يكون نتاج الابتعاد والإهمال عن تعاليم ديننا الحنيف، الذي كان ولا يزال يوصي بزرع الأخلاق الطيبة في نفوس أتباعه ليجعلهم أقوياء بشخصياتهم المرتبطة بالله تعالى.
لذا؛ فإن من أهم الواجبات التي يجب أن تتكفل بها الحكومات العربية والإسلامية من خلال منظمات حقوق الإنسان في العالم، مثل مؤسسات رعاية الطفل والأسرة وغيرها، الاهتمام البالغ بتشكيل لجان توعوية خاصة تقوم بحملات تثقيفية مجتمعية للكبار والصغار بمختلف الأعمار؛ بحيث يكون الهدف منها توعية المجتمع بأهمية الكلمة الطيبة وأثرها على الفرد والمجتمع؛ وذلك من خلال زرع ثقافة: "لِسَانكَ حِصَانَكَ إِنَّ صِنَّتَهُ صَانَكَ وَإِنَّ خُنْتُهُ خَانَكَ".
تلك الثقافة الجميلة التي من خلالها يستطيع الإنسان بناء مجتمعات ودول واعية متقاربة ومتحابة شعارها الكلمة الطيبة التي هي مفتاح لكل القلوب، وراحة لكل النفوس، وصالحة لكل زمان ومكان، يحتاج إليها الفقير والغني والأب والأم والمسؤول والموظف والمعلم والمتعلم، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"؛ فالكلمة التي يطلقها الإنسان بلسانه هي مسؤولية كبيرة وعظيمة، يجب على الإنسان أن يعلم كيف يتعامل معها، فرب كلمة نابية كانت نهايتها الخصومة والمقاطعة والجفاء والفراق بين الأحبة، ورب كلمة رخيصة أدت بصاحبها إلى الخروج عن دينه وعقيدته، ورب كلمة طيبة ومباركة أنقذت حياة الناس من الهلاك والضلال، ورب كلمة هادئة طيبة قربت القلوب وألفتها وجمعتها على الخير والصلاح.
لذا؛ ينبغي على الإنسان في جميع مواقفه وأحواله في الأسرة والمجتمع أن يقول خيرا أو يصمت.