التيك توك الذي قصم ظهر الرئيس

 

خالد بن الصافي الحريبي

كانت ليالٍ مليئة بالثِّقة والحماس في قاعات وساحات فخمة على مد البصر، وحيثما يممت ناظريك رأيت الوجوه الحسنة المستبشرة، ومظاهر الزينة والألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء. وكانت جماهير- ليست بالقليلة -  تمضي لياليها في مدينة تولسا بولاية أوكلاهوما الأمريكية، في ترقبٍ لضيفها السابق فخامة الرئيس دونالد ترامب ليُلهبها بحكايات عظمته التي ظنَّ هو وأنصاره والكثيرون أنها لن تبيد أبداً. ولكن هذه كانت من ذكريات ليالي ١٩ و٢٠ يونيو من العام الماضي، والتي كتمت سراً لم يكن في حُسبان داهية عصره ولا جهابذة حزبه وحملته الانتخابية. فحين بدأ البث رأى كل المُتابعين حول العالم أنَّ أقساماً كاملة في المدرجات خاوية على عروشها، وآلاف المقاعد الفارغة، والساحات الخالية من الناس خارج القاعات لدرجة اضطر معها المنظمون لإلغاء بقية برنامج الحملة الانتخابية وقفلوا أدراجهم راجعين بخفي حنين. وما لبث أن انكشف السر؛ حيث رفعت مجموعات من الفتيات والفتية الصغار من جيل "زد" المولودين عام ١٩٩٦ وبعده، فيديوهات توضح أنَّهم نظموا تحدياً فيما بينهم لتحليل البيانات اللازمة للتأثير على حملة ترامب، واشتروا حوالي مليون بطاقة دخول إلكترونية؛ ولم يستخدموها. ونشروا فيديوهات توضح أنَّهم فتية آمنوا بقضيتهم وزادتهم خطابات ترامب التي تكرر أسطوانة تأجيج نار التفرقة والتعصب والعنصرية هدىً وحكمةً ووطنية.  ولَعِب إلمامهم بجاذبية بياناتهم وبميزات التواصل عبر تطبيق "تيك توك"؛ وهي منصة تواصل اجتماعي عدد مستخدميها يصل لحوالي مليار شخص حول العالم خلال أربع سنوات وتملكها شركة بايت دانس الصينية، دوراً مفصلياً في نجاح مسعاهم لإرسال رسالة ضد خطاب التفرقة. ومنذ ذلك اليوم استوعب ترامب أن "من مأمنة يؤتى الحذِر"  نعم، هو الحذر وأن التواصل بين الأجيال بعد فوات الأوان لا يعول عليه.

وكانت حادثة "التيك توك" هذه هي القشة التي قصمت ظهر بعير حملة الرئيس السابق الانتخابية، وذهبت خططه لفترة رئاسية ثانية ومحاولته لحظر هذا التطبيق بالذات أدراج الرياح. ولا يزال كل من يتمعن فيما حصل يتساءل: ما معنى أن يهزم حفنة من المراهقين وهم أضعف خلق الله إنساناً اقتصادياً وسياسياً فخامة الرئيس السابق ترامب؟ مع أنه هو وأنصاره أخضعوا الكونجرس بشيوخه ونوابه، وابتزوا حلفاءهم الناتو والأوروبيين المؤمنين بتفوقهم، وحاصروا خصومهم الصينيين الذين تضررت تجارتهم، وساوموا دولاً في وطننا العربي على مبادئها وأرزاق أجيالها الحالية والمستقبلية.

ولنسبر غور هذا الموضوع سيفيدنا أن نعرج على العلاقة المتطورة بين الإنسان والأجيال بالتكنولوجيا وعصر اقتصاد الانتباه والبيانات والدروس المستفادة للمستقبل.

 

بياناتنا وجيل "زد"

 

ولأن للدول والمجتمعات أعمار كأعمار البشر فإنَّ الأمم المطمئنة هي الأمم التي تفلح في بناء نقاط قوتها وعلمها النافع في مجال اقتصاد المعرفة والبيانات، وتيسير تبادله بين كل جيل وطيف من أطياف المجتمع. فحسب مركز التكنولوجيا الإنسانية "جيل الحكمة" الذي ولد قبل السبعينات فإنَّ علمه النافع هو خبراته التراكمية المتنوعة وإمكانياته التي تسهم بما يسمى الاقتصاد الفضي. بينما الجيل الذي ولد في السبعينات أو جيل "إكس" فعلمه النافع هو استفادته من انتشار العلوم والمعارف والتكنولوجيا. وجيل "الألفية" الشهير الذي ترعرع في الثمانينات فهو جيل العولمة والإنترنت والأزمة الاقتصادية العالمية. أما الجيل الذي هزم ترامب ونحن بصدده فيسمى جيل "زد" هو أول جيل تعلّم في ظل بداية انتشار التقنيات الناشئة والثورة الصناعية الرابعة، والأهم من ذلك من بين وسائل التواصل الاجتماعي الـ"تيك توك".  وبما أن جيل "زد" هم حوالي نصف المجتمع في وطننا العربي ويعيشون نصف حياتهم يبحرون في تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أصبحت نقطة قوتهم تكمن في اهتماماتهم العالمية التي غدت توازي أولويات مجتمعهم المحلية، ويزيدون على بقية الأجيال في حرصهم على مواردهم المالية، وموارد كوكبنا الطبيعية.

ولأنَّ بياناتنا هي الثروة العصرية التي تثري شركات التواصل الاجتماعي أحسن جيل "زد" استغلال رغبة هذه الشركات في بياناته وحولها لصالحه في إبراز المواضيع الترفيهية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي يعتبرها أولوياته. لذا فنحن في أمس الحاجة اليوم لهوية تتبنى تبادل المعرفة بين الأجيال كمكونٍ أصيل لشخصيتها الوطنية، وتترجم لمؤشرات أداء وبرامج تعزز تنوع أجيالنا وتوادها وتراحمها.

 

الخوارزمي وعصر "اقتصاد الانتباه"

 

تعتبر البداية الحقيقية لسر قوة التكنولوجيا العصرية التي وراء انتشار تطبيقات مثل تيك توك، مع فخرنا العلامة الخوارزمي، وهو أبي عبدالله محمد بن موسى عالم الرياضيات والجغرافيا والفلك المسلم، الذي طور المعادلات الرياضية بصورة أضفت ذكاءً حسابياً إلى ذكاء الإنسان الطبيعي في تحليل البيانات. ومع تطويرنا للحواسيب الآلية بدأ الإنسان بتعليمها هذه المعادلات الخوارزمية الذكية في تحليل بياناتنا مما مهد لظهور أهم تقنية ناشئة في عصر الثورة الصناعية الرابعة باسم "الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence- AI". فخلال السنوات بدأ علماء الاقتصاد في اعتبار انتباهنا خلال فترة حياتنا سلعةً اقتصادية عالية القيمة تشتريه المؤسسات الراغبة في ترويج لخدماتها ومنتجاتها وتبيعه شركات تقنية المعلومات والاتصالات وبالأخص شركات التواصل الاجتماعي، فأسموه "اقتصاد الانتباه “Attention Economy. فمثلاً تعتمد ربحية شركات مثل تيك توك وفيسبوك وتويتر وانستغرام وجوجل على خوارزميات ذكية تتعلم من انتباهك واهتماماتك وتتقرب من نفسيتك وتقودك بكل لطفٍ شيئاً فشيئاً إلى الإدمان المُجزي لهم على ميزات التطبيق. وخلف كل تطبيق آلاف الرواد المبتكرين والمستثمرين المُغامرين والمبادرين والملائكة، وغير الملائكة، وفرقهم من المهندسين والاستراتيجيين الذين يحولون لحظات ودقائق وساعات حياتك التي تقضيها على التطبيق إلى مساحات إعلانية للمؤسسات التي تدفع أكثر. وذلك عبر أربع خطوات؛ تبدأ بجذب انتباهك وتحويله إلى اهتمام فرغبة ثم فعل يُقربه من المُعلِن. وعلى هذا الأساس تحولت تطبيقات بسيطة تبدو لنا مجانية إلى شركات عملاقة تسهم في اقتصادها الوطني عبر استثمارات وفرص عمل ودخل، بينما تتحول مجتمعات لم تحسن الاستفادة من بياناتها إلى مستعمرات بيانات.

 

 

تيك توك وحاضرنا ومستقبلنا

 

"إنَّ المجتمعات التي لا تحسن بناء اقتصاد بيانات ستتحول لمستعمرات بيانات" كما ذكر البروفيسور يوفال نوح هراري في كتابه الإنسان الخارق، لذا فإني أدعو الجهات المعنية أن تأخذ بعين الاعتبار أن تتضمن رؤيتنا المستقبلية اهتمامات، تتعدى الجانب الرقابي التقليدي، إلى توسعة الاقتصاد بناءً على تحليل البيانات واتخاذ إجراءات وقائية واستثمارية في نفس الوقت. فيمكننا تقنين استغلال شركات تقنية المعلومات والاتصالات العالمية لبياناتنا أسوة بدول الاتحاد الأوروبي عبر ما يسمى بـ GDPR. فعلى سبيل المثال يمكننا أن نتيح للمستثمرين من شركات تقنيات المعلومات والاتصالات العالمية والشركات الحكومية "حق طلب البيانات" من المواطنين والمقيمين مُقابل تعهد هذه الشركات بأن تستثمر في حوافز اقتصادية واجتماعية للمواطنين والمقيمين تتساوى مع قيمة بياناتهم.

ما أنسب القول المأثور، الذي يُنسب لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، "ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم" أي لكل عصر، فما أحوجنا اليوم إلى أن نقي أنفسنا وأجيالنا الناشئة شر الإدمان على تيك توك وأخواته، وإلى أن نبث فكر الخوارزمي في كل الأجيال. فقد اطّلع هذا العلامة الجليل على العلوم الهندية والتركية والفارسية وبلاد ما بين النهرين والإغريقية والرومانية والفرعونية والعربية وطورها لعلم نافع خالد. وهو بهذا لم يخدم أمته فقط بل خدم الإنسانية إلى يوم يبعثون. فادعوا الله عز وجل أن يمكننا من إلهام أجيالنا الناشئة لتبني اقتصاد معرفة وبيانات ويجنبنا مصير مستعمرات البيانات إنه قدير كريم سخي الهِبات.