خالد بن الصافي الحريبي
"من يُصدر الحُكم؛ يُمضي السيف"، هذا ما قاله اللورد حاجب الملك ناصحاً خليفته حول أمانة تحمُل المسؤولية وهي حكمة اقتبستها لكم ضمن الملحمية الخيالية لُعبة العُروش والتي تحولت بدورها إلى واحد من أنجح المُسلسلات في التاريخ الذي ملأ الدنيا وشغل عشرات الملايين من المشاهدين حول العالم.
وفي أحد المشاهد يترأس حاجب الملك "إد ستارك" محاكمة عسكرية وسط ثلوج كثيفة لجندي فارٍ من وحدة حراس الليل الخاصة حُماة حدود المملكة الشمالية، ويكشف الجندي سر فراره وذلك لأنَّه شهد بعينيه تربص أعداءٍ من مخلوقات مُرعبةٍ يقودها ملكُ الليل الإسطوري واختراقهم خلسةً لجدار الحدود، بينما حراس الليل مُنشغلين بأعداء بسطاء يسمونهم البرابرة، ففزع الجندي ظاناً أنه لا قبل لحراس الليل بهذا العدو. ولأنَّ الفرار في وجه العدو جريمة لا تغتفر يصدر الحاجب حكم الإعدام وينفذه أمام الجنود وخلفائه المرتقبين ويُصر أن لا يشيحوا بأعينهم حتى يستوعبوا المغزى الحقيقي لأمانة تحمُل المسؤولية: إن المسؤولية أمانة وتكليف أساسه أن يعي ويتأمل ويتفكر المسؤول في تأثير كل قرار وحكم على حياة وأرزاق المعنيين بالحكم، فإن لم يكن المسؤول قادرا على استيعاب هذه الأمانة فإنه غير جدير بإصدار الأحكام.
وأتأمل هذه القصة ونحن نشهد سيلاً من الأحكام والقرارات والأوامر الرئاسية التي ستصدر خلال المائة يومٍ المُقبلة من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ فكيف تعكس الأولويات السبع لهذه الأوامر الرئاسية مقاصد أمانة تحمُل المسؤولية، وما الذي يعنينا منها؟
الأولويات السبع للأوامر الرئاسية
- جائحة وباء كوفيد-١٩
حجر الزاوية في استراتيجية الإدارة الجديدة أدركت الإرادة الإلهية والقضاء والقدر الذي لا يمكن أن تتجاهلها أي قوة عظمى في العالم كما فعلت الإدارة السابقة، لذلك فإن أول الأوامر الرئاسية تتناول الترويج لتمرير أكبر حزمة إنقاذ في تاريخ أمريكا تبلغ قيمتها تريليوني دولار. كما غيرت الأوامر الرئاسية أمانة تحمُل مسؤولية بهذه الحزمة وأعطت "الخبز خبازه" حيث يقود الفريق الحكومي الصحي ثلاث خبراء؛ مجلس عُلماء، وإدارة مكافحة الأمراض المخضرمة، وكبير موظفي البيت الأبيض الذي أثبت كفاءته في مكافحة وباء إيبولا سابقا "رون كلاين".
- القيادة الدولية
إن أبرز ما يميز مجلس وزراء الإدارة الجديد أنه الأكثر تنوعاً في تاريخ أمريكا مما يرسل رسالة لحلفاء أمريكا وخصومها معاً مفادها أن النسيج الأمريكي الداخلي متماسك، وأنه يرى أن مسؤوليته الترويج للتنوع والإدماج عملاً وقولاً. ولدى الرئيس بايدن إنطباع راسخ بأن الحلفاء الأوروبيين في حاجة لقيادة أمريكا بنموذج أخلاقي يعكس ميول قادتهم الأخلاقية في فترة العام ١٩٩٤ عندما كان حينها رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وساند الحملة لإيقاف إبادة الصرب والكروات للمسلمين، أثناء حرب البوسنة وهاله تردد حلفائهم الأوروبيين. كما أن إدارة بايدن تتطلع لاتفاق مع إيران، التي تشهد انتخابات رئاسية هذا الصيف، لا يشمل الجانب النووي فقط وإنما الحد من نفوذها في العراق، الدولة التي كان بايدن ومعظم فريقه مسؤولا عنها سابقا كنائب رئيس، مقابل أن تحافظ إيران على بعض نفوذها بعد التنسيق مع إسرائيل في لبنان واليمن، بالإضافة إلى التفاوض معها حول نفوذها في سوريا ودول الخليج العربي.
- المناخ
ركزت الأوامر الرئاسية كذلك على رفع ملف المناخ وإسناده لمبعوث خاص وهو وزير الخارجية الأسبق جون كيري، بالإضافة إلى الانضمام لاتفاقية باريس للمناخ. كما عينت الأوامر وزراء للطاقة والبيئة مسؤوليتهم النهوض بقطاع الطاقة المتجددة. كما أوقفت الأوامر الرئاسية أي أنابيب نفط وغاز تمر عبر مناطق محمية، في رسالة مفادها أن تعيين قادة مؤمنين بقيم صون البيئة ستكون أحكامهم وقراراتهم متفقة مع قيمهم، كما يضمن أن تتناغم الريادة الاقتصادية عالمياً لأمريكا في اقتصاد الطاقة المتجددة ومجال التحول التدريجي لخفض انبعاث الكربون.
- العدالة الاجتماعية
مما لا شك فيه أن محنة دولة المؤسسات الأمريكية من اضطرابات ٦ يناير الماضي والهجوم على مبنى الكونجرس التي كادت تودي بالديمقراطية الأمريكية خدمت الرئيس بايدن. وقد أعطت أوامره الرئاسية التي تسعى لتصنيف منظمات التفوق العرقي على أنها منظمات إرهاب محلي دفعة لعقيدته التي يود أن يتركها كإرث وهي أنَّه من بنى خيمة كبيرة تشمل كل أطياف المجتمع وتعاملهم بعدالة، سواء سرق فيهم ضعيف أو شريف يُقام عليه الحد.
- الاقتصاد
هنا تتضمن أوامر بايدن الرئاسية أن يصدر المجلس الاقتصادي وإدارة المؤسسات الصغيرة الأحكام والقرارات بالتنسيق مع ممثلي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الخمسين ولاية. على سبيل المثال قرر المجلس والإدارة مؤخرا في اجتماع مع مائة ممثل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة إطلاق "البرنامج الوطني للملاحين المجتمعيين National Community Navigators Program". تتمثل مهمة هذا البرنامج في تمكين موجهين خبراء في كل ولاية من الربط بين الفرص الاستثمارية المدعومة من القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة حسب استراتيجية وطنية.
- الصحة
تسهم منظمات الأمم المتحدة بدور عالمي مهم في توفير الحد الأدنى من تنسيق الجهود بين الدول. وإن كانت الأمم المتحدة أصابها بعض من الترهل عبر الزمن، إلا أنَّ التعامل الحاد للإدارة الأمريكية السابقة نال من مكانتها الدولية ومكانة أمريكا، لذا فإن الأمر الرئاسي بإعادة انضمام أمريكا لمنظمة الصحة العالمية قد يكون مبشراً من ناحية التزامها بقرارات المنظمة ومواصلة تنفيذها للقرارات والتوصيات التي تصدر عنها.
- الهجرة
إنَّ تنافسية العالم في كل المجالات، وبالذات في مجالات العلم النافع، أصبحت غير مسبوقة، وأشبه بحرب عالمية لاستقطاب الكفاءات من المبتكرين. وقد خسرت أمريكا كثيرا بتضييقها على المهاجرين، وخصوصاً من هم من دول ذات غالبية مُسلمة، وكاد أن يصيب مجتمعاتها الجمود ومختبراتها الفقر في الأفكار وسوقها كساد عظيم. لذا فإنَّ الأوامر الرئاسية برفع الحظر ودخول هذا التنوع البشري من شأنه أن يعيد الجاذبية لأمريكا كالوجهة الأولى لكفاءات العلم النافع.
ماذا يعنينا من توجهات الإدارة الجديدة؟
مما لا شك فيه أن ابتلاءنا بالجوائح رسالة كونية من الله عز وجل لنا كبشر لنتحمل أمانة استخلافه لنا في الأرض والتحلي أكثر بروح المسؤولية. ولنا في الأوامر الرئاسية مثالا وعبرة نأخذ منها ما ينفعنا. لذا فإن إخلاص النية في بناء مستقبل أفضل في العدالة الاجتماعية والاقتصادية والصحية والعلاقات الدولية يتطلب من المسؤولين في كل مجتمع أن يعملوا بالأمر الإلهي الذي يحثنا على التأمل والتدبر والتفكر في كل أحكامنا وقراراتنا التي تؤثر على أرزاق الناس وحيواتهم. وما من أمة تكون فعلا خير أمة خرجت للناس إلا إذا كان كل مسؤول ومواطن عضواً في المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما جاء في الهدي النبوي، وذلك هو الفوز العظيم.
