"الشهادة.. الرؤية.. الأداة"

خطاب الإعلام العماني (3)

د. مجدي العفيفي

(11)

بين عامين، لحظة، لحظتان، ثلاث لحظات.. شغلتنا بكثافتها، فاصلة: والفواصل الزمنية تستحق الاحتفاء والحفاوة، عمانيا: كان الحادي عشر من يناير موعدا احتفائيا للذكرى الأولي لتولي السلطان هيثم بين طارق مقاليد الحكم فى البلاد، خلفًا للسلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وهي ذكرى علامة مضيئة وفاصلة جديدة في تاريخ عُمان المعاصر، وعهد متجدد لاستمرارية ما تأسس وما أنجز من عنفوان النهضة المباركة، وأمل في غد أكثر إشراقا وعطاء، وهو ما يبشر به صدور نظام أساسي جديد للدولة، ووضع آلية تعيين ولي العهد، بما ينظم آلية انتقال الحكم عبر آلية محددة ويضمن الاستقرار، كذلك جاء مرسوم إصدار قانون مجلس عمان تأكيدا على دور هذه المؤسسة في عملية الشورى وترسيخ دولة المؤسسات.

وإقليميا: كانت المصالحة الخليجية تأكيدا على أن الحميمية الخليجية أكبر بكثير من كل التوترات المؤقتة، وقادرة على تنحية الخلافات جانبا تماما، بعد نحو ثلاث سنوات من المقاطعة والمرارة، وقد تحركت دول الخليج لتخفيف أحد أكثر النزاعات غير العادية في الشرق الأوسط.

وعالميا: كان العنف الأمريكي باقتحام الإرهابيين الأمريكيبن لمبنى ومعنى الكونجرس، ومحاكمة ترامب وقطيعه المتطرف الدموي، إلى جانب أوجاع أخرى من قبيل عنف مأساة كورونا الدرامية الدامية، واستمرارية توحش وهمجية الكيان الصهيوني ونفاياته البشرية.

كل ذلك شغلنا نسبيًّا -وكان لابد أن يشغلنا- عن تسلسل رؤيتنا للخطاب الإعلامي كلبنة أساسية وتأسيسة في صرح النهضة العمانية الحديثة.

(12)

حتى اللحظة الراهنة في ضياء شمس النهضة المستمرة، وقد أكملت دورتها الخمسينية، لتبدأ دورة جديدة أوقف الخطاب العماني ستة وزراء على ناصية الإعلام.

في مرحلة البداية، كان وزير الإعلام غير متفرِّغ للإعلام إذ كانت القيادة السياسية تضم له وزارة أخرى؛ فكان معالي عبدالله بن محمد الطائي وزيرا للإعلام والشؤون الإجتماعية (1970-1972) وكان صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد وزيرا للإعلام والسياحة 1973-1974، ثم وزيرا للإعلام والثقافة 1974-1979، وكان معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس 1979-1982 وزيرا للإعلام وشؤون الشباب.

إلى هنا كانت الجهود الإعلامية مواكبة للعقد الأول من النهضة، وهو عقد التكوبن والتأسيس، وكان المهاد للتحولات المتتالية، ليسمع العالم الصوت العماني بجلاء وموضوعية، ومن ثم فقد أولت القيادة السياسة للإعلام الأهمية المناسبة؛ باعتبار أنَّ العصر الذي نعيشه يعد الإعلام واحدا من أكبر المسميات التي تجيب عن السؤال الكبير فيه: في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟

ومن ثم كان معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس أول وزير متفرِّغ تماما للإعلام من العام 1982 حتى 2001. ومن بعده معالي حمد بن محمد الراشدي وزير الإعلام 2001-2012، ثم معالي الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام 2012-2020، والآن معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي 2020، ولكل مرحلة من هذه المراحل بصمتها وتوقيعها، وشواهدها ومشاهدها، وشهودها وأشهادها، بصورة أو بأخرى، نستقطرها من منظور المشاهدة العينية والفؤادية، ومن قلب المشاركة العملية والمعايشة الطويلة، شخصا وشخصية، ذاتيا وموضوعيا، وسواء أكان من وسائل الإعلام العامة أم الخاصة، مطبوعة ومسموعة ومرئية... وما دون ذلك.

(13)

قل هي حلقات في كشفها ما قد يكمل دوائر تبدو منقوصة وتريد أن تُغلق.

قل هي حروف تحتاج نقاطا.. ونقاط تثبت حروفا.

قل هي أسئلة تبحث عن أجوبة.. وإجابات تبحث عن أسئلة.

وعطفا على حواريتنا في المشهد السابق عن الرجل الذي قاد سفينة الإعلام في آونة كانت تتلاطم أمواجها بعنف، وتختلط أوراقها تخليطا لا تستطيع من فرط أوارها أن تتبين الخيوط البيضاء من السوداء إلا قليلا، أقول كم مرة حاولت، ولا أزال -أن أتسلل إلى ما وراء منظومة عبدالعزيز الرواس الفكرية، وأزيل القشرة الصلدة التي يضعها على قناعته بألا يتحدث عما يفعله إعلاميا.. وكم من مرة أوشكت على تشغيل شرائط من هذه الذاكرة التي تختزن وتختزل.. وتفيض وتغيض.

كم من مرة حاولت الاختراق حتى حد الاحتراق؟!

حديثه حر السمات طليق القسمات، مطرز بالخبرة.. وبصمات الأيام.. وتوقيع التجربة.. في السياسة والثقافة والصحافة والإعلام والدين والمجتمع والناس.. والحياة بما فيها ومن فيها.. بحلوها ومرها.. بانتصاراتها وانكساراتها.. بأشواقها وعذاباتها.. بخطاها وخطواتها، ومن كتبت عليه خطى مشاها.

(14)

أتذكَّر، والذكريات صدى السنين الحاكي، ذات مرة أعددت كتابا بعنوان "شخصيات عمانية.. رجال من عُمان"، فقال إنَّنا كلنا نعمل في منظومة واحدة ووحيدة هي عمان قابوس، الشخصنة ليست واردة في القاموس العماني الحديث.

حواريات كانت تتم.. ومناقشات.. ومناوشات.. ليس فقط بحكم كونه وزيرا للإعلام ولكوني رجل إعلام، بل أيضا لطول العشرة الاجتماعية وتقوية خطوط الإلفة القلبية والفكرية، ومؤازرة خيوط العلاقة العلمية والعملية، ومجاوزة الإطار الضيق لفضاء التشابك بين الشخص والشخصية.

أيام لا تزال تجلياتها ممدودة ومشعَّة على جبل الشوق والسرد المقدر والخطاب بعذاباته الجميلة والحكي بعذوبته الأكثر جمالا.

في ذاكرة الرواس يتلاشى الزمن الطبيعي، ولا حدود ماثلة بين اللحظة الفائتة.. واللحظة الآنية.. واللحظة الآتية. قل لحظة دائرية.. بللورية.. زمانها يموج في مكانها.. تشبك الرؤية بالرؤيا.. والذاتي بالموضوعي.. والداخل بالخارج، و"الأنا" هي الرابط بين كل أولئك.. الأنا الممتلئة بذوات الآخرين، وليست الأنا التي ترادف النرجسية، رغم أن الترادف لا حقيقة له في اللغة ولا في الحياة، وكاتب هذه السطور لا يؤمن ولا يقر بما يسمى بمدرسة الترادف. فهي القاتلة لحيوية وخصوبة اللغة، واللغة لا تنفصل عن الفكر، فكل منهما يتماهى مع الآخر.

ولهذا سياق عميق وطريق طويل، سنعاود السير فيه بهدوء.

(15)

على أعلى قمة في جبال منطقة القرم بالعاصمة مسقط، ارتفعت "مدينة الإعلام" عام 1974 رامزة في المعنى والمبنى والرؤية والأداة لصوت عمان الإعلامي؛ تقديرًا لأهمية الإعلام والدور الذي يلعبه في حياة الأمم كمرآة "تعكس ما يدور في البلاد، وهذه المرآة يجب أن تكون صافية نقية، صادقة مع نفسها ومع الآخرين".

على أن هذه المرآة -كإحدى المرايا المتجاورة التي تجلي وجه النهضة- كان ينتظم أشعتها المرسلة من نصوص الخطاب، إضاءة من جلالة السلطان حين أشار إلى ضرورة أن يكون "الفكر الإعلامي.. موجهًا"، ومن ثم يفسح المجال للنقد المشروط "بدراسة حقيقية علمية، وأن يتوخى الإصلاح، وأن يكون مبنيًّا على أسس الصدق". وفي منظوره أن "النقد البناء مقبول لدى الكل" شريطة ألا يكون بطريقة معقدة "حتى لا يكون عرضة للتأويل"، فيتم تحويره عن سياقه؛ وبالتالى يخرج "عن غير داوفعه وحقيقته".

ومن أجل ذلك، ظل الخطاب الإعلامي منذ البداية نقطة ارتكاز في حقل الخطاب السياسي كمظهر من مظاهر التنمية؛ حيث أسهم في إعادة إنتاجه وانتشاره بين مختلف شرائح المجتمع، لما للخطاب الإعلامي من دور كبير ليس فقط في انعكاس الواقع الاجتماعي، بل بالمشاركة في بنائه، وبقدرته على تحقيق الإقناع والتأثير في المتلقي لتحويل الأفكار والقيم التي يتضمنها إلى ممارسات سلوكية تنسجم مع أهداف الخطاب السياسي؛ لذلك يقع الخطاب الإعلامي في أهم مواقع المسافة بين تصور الواقع والواقع ذاته، وهو أمر أشرت إليه إشارات عابرة وأنا أحلق في أجواء الخطاب القابوسي، وتحديدا مع الحفر في طبقته الإعلامية، وقلت إنَّه إذا كان الخطاب السياسي هو جملة التصورات النظرية والمفاهيم المنظمة في إطار منطقي حول الواقع السياسي في مجتمع ما، وفي إطار تاريخي محدد "فإن الهدف الأساسي للخطاب الإعلامي هو إعادة إنتاج الخطاب السياسي، من خلال إنتاج الرموز والإشارات والعمل على تقنيع الواقع وتقديمه بصورة وأنماط مختلفة لتحويل الآراء والقناعات إلى ممارسات سلوكية تتواءم وأهداف الفاعل الخطابي".

يُواكب الخطاب الإعلامي مسارات الخطاب السياسي العماني، بقدرته على المساهمة في عمليات التربية والتوعية والتثقيف، وحل المشاكل والأزمات التي يعاني منها الواقع، لا سيما وأنه يعدُّ في عالمنا المعاصر الأداة الرئيسية، بتقنياته الحديثة ووسائله الفعالة وبلاغته المؤثرة، ليُسهم في تشكيل وعي الملايين من البشر، أو بعبارة أدق في صناعة الرأي العام على نطاق واسع، مؤثرًا في نظم القيم، واتجاهات السلوك والمواقف، فدور "الإعلام هو من الركائز المهمة في أي مجتمع". لذلك؛ نال من التنمية الفكرية والنوعية الكثير والملحوظ.

(16)

لا يُمكن تناول المنظور الإعلامي العُماني بمعزل عن المجتمع الذي يمارس فيه وظيفته، ويستمد منه مدخلاته ويفضي إليه بمخرجاته، وهي علاقة لم تكن تسير في اتجاه خطي ثابتة، إنما هي علاقة جدلية متبادلة التأثير والتأثر. لذلك كان تأكيد الخطاب السلطاني على تطوير الإعلام في كل مرحلة، ومع كل نقلة نوعية في المجتمع؛ ليشارك مع القوى الفاعلة فيه، باعتباره جزءًا من كل، وإن ظل في غرفة قيادة سفينة المجتمع، بصورة أو بأخرى، وليُسهم بدوره في عملية التغير الاجتماعي "وهو دور يرتبط بشكل أساسي وجوهري بالوضع السياسي العام، ولا يمكن أن ينفصل هذا الدور عن السياق العام لتطور الدولة والمجتمع في آن معا"، وهي مُساهمة متعددة لعل أبرزها: "المساهمة في تطوير المعرفة ونقل المعلومات، وفي تنمية الوعي العام، وفي خلق ثقافة المساءلة والمحاسبة".

(17)

حين ظهرت الموجة الجديدة من الإعلام مع بدايات الألفية الثالثة مثل الشبكة الدولية للمعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعي... وغيرها، وبعد مرور كل هذه العقود على مواكبة الإعلام لنهضته، تأكد المواطن العماني أن إعلامه لم يكن يقدم له صورة مغايرة للواقع، بل قدم الصورة الحقيقية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلم يحدث أن كان هناك اغتراب سياسي لديه.

هذه الحقبة تستدعي منا هذه الوقفة الراهنة...،