دروس من تاريخ الإنسان الحكيم

 

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي

قسم الكيمياء، كلية العلوم

لكل شعب من الشعوب وكل أمة من الأمم تاريخٌ تعتز وتهتم به وتحرص أن توثقه وتتناقله عبر الأجيال، لكن القرنين الأخيرين شهدا اهتماماً بالغاً بنوع مُغاير من التاريخ وبأدوات جديدة لم تعهد سابقاً في دراسة التاريخ، فلقد برز اهتمام بالغ بتاريخ الإنسان لا كإنسان ينتمي إلى جماعة أو شعب من الشعوب بل بكونه من فصيلة "الإنسان" فهذا التاريخ يدرس مسيرة الإنسان حتى قبل تكون القبائل والشعوب والدول إنِّه تاريخنا جميعاً نحن بني الإنسان فهذا التاريخ ينظر إلينا على أننا أمة واحدة نشترك في التاريخ والوطن.

وعلى الرغم من وجود هذا الصنف من التاريخ في عدد من الكتب إلا أنَّ الجديد في الأمر هو استخدام أدلة مُختلفة فبدل الرجوع إلى الموروث التاريخي المكتوب فقد تمت الاستعانة برفات الأجداد أو ما يُعبر عنه بالأحافير للكشف عن تاريخنا نحن بني الإنسان.

ويُعد توثيق تاريخ الإنسان باستخدام هذا النوع من الوثائق من التحديات الكبيرة، فتفسير الدليل العلمي وتوفر العينات يلعب دوراً هاماً وقد يسبب انقساماً بين المختصين في فهمهم لهذا التاريخ الإنساني، لكن المصادر التي اعتمدناها والواردة في هامش المقال تتفق على عدة أمور حول هذا التاريخ الموحد للإنسان، ومن أهم هذه الأمور، أن جميع الناس الموجودين حالياً هم من فصيلة واحدة لا فرق بينهم، إذ أثبتت الدراسات العلمية أن جميع الناس الموجودين حالياً هم من فصيلة أسميناها "الإنسان الحكيم".

كما أن أغلب المختصين يرجحون أن وطننا الأم الذي ننتمي إليه هو شرق القارة الأفريقية، ففي تلك القارة نشأ أجدادنا وعاشوا فيها لعشرات الآلاف من السنين، ولذا فنحن جميعاً في الأصل من أصحاب البشرة السمراء وذلك قبل أن نبدأ بالرحيل إلى القارات الأخرى ونستوطنها.

وتشير هذه الدراسات أيضاً إلى أننا كنا نمتهن مهنة الصيد البري، فكان أجدادنا صيادين ماهرين، إذ كانوا يقضون أيامهم في البحث عن لقمة العيش وذلك من خلال الصيد البري، ولذا فلقد كان أجدادنا يملكون بنية رياضية لأنهم كانوا يقطعون مسافات شاسعة جرياً وراء لقمة الطعام.

إن تاريخ الإنسان ومن خلال دراستنا لرفات الأجداد، ضرب كل دعاة الطبقية ودحض نظرياتهم "فنظرية عبء الرجل الأبيض" التي حاول الغرب تبنيها في القرن التاسع عشر واستخدامها لتبرير الاستعمار، عصف بها البحث العلمي الرصين أدراج الرياح وأثبت أنَّ أجداد هذا الرجل الأبيض كانوا من أصحاب البشرة السمراء، ولم تكتف هذه القصة التي تبناها العلم الحديث على وحدة الأصل والنسب فحسب بل إنَّ هذه القصة العلمية تجاوزت ذلك وأكدت وحدة الموطن والنشأة ووحدة الحرفة والمهنة فكل بني الإنسان انحدروا من بقعة واحدة وجميعهم امتهنوا مهنة الصيد.

إلا أنَّ الملاحظ من خلال تتبع تاريخ الإنسان أننا نحن "الإنسان الحكيم" عندما نستوطن مكاناً ما، فإنَّ الثدييات الضخمة والكبيرة تنقرض من ذلك المكان بعد فترة وجيزة نسبياً، فعندما وطأت أقدامنا أوروبا انقرض الماموث أحد الثدييات الضخمة وعندما غزونا أستراليا انقرض الكنغر العملاق والذي كان يصل طوله إلى أكثر من مترين.

ولا يقتصر الأمر على انقراض الثدييات الكبيرة التي ذكرناها فالملاحظ أيضاً أننا أيضاً وبمجرد استيطاننا لأماكن جديدة فإنَّ أصنافا أخرى من البشر انقرضت أيضاً فالدراسات التاريخية تُشير إلى أننا نحن الإنسان الحكيم عاصرنا في فترة من فترات التاريخ أصنافاً أخرى من البشر، وهذه الأصناف من البشر كانوا يختلفون عنَّا، فمثلا حجم الجمجمة لدى أغلب تلك الأصناف البشرية كان صغيرًا مقارنة بحجم جماجم "الإنسان الحكيم" مما يشير إلى أنهم ربما كانوا يملكون قدرات عقلية أقل منِّا، فلقد عاصرنا عبر تاريخنا الطويل والذي يمتد لآلاف السنين عددا منهم مثل صنف أطلقنا عليهم "دينيسوفا" وآخر أطلقنا عليه  "فلوريس" والذي كان يتميز بقصر قامته إذ كانت تصل إلى حوالي متر واحد وبضع سنتيمترات، لكن كل هذه الأصناف من البشر انقرضت ولم يبق منهم أحد.

إنَّ أحد العوامل المشتركة بين انقراض الحيوانات الثدية الضخمة وانقراض الأصناف الأخرى من البشر هو تزامن حدوث الانقراض مع استيطاننا نحن "الإنسان الحكيم" تلك الأراضي، فهل يا ترى نحن من افترسنا تلك الحيوانات الضخمة وقضينا عليها ونحن من قضينا على أصناف البشر الأخرى عن بكرة أبيهم ولم نبق لهم باقية دون رحمة أم أن هذه الحيوانات الضخمة والصنف الآخر من البشر هم من عجزوا عن التكيف مع البيئة وتقلباتها؟

إنَّ الأمر المُتحقق حدوثه أننا وبسبب قدرتنا الفائقة على التكيف مع البيئات المختلفة استطعنا أن نصمد وربما لم تستطع أصناف البشر الأخرى والحيوانات الثدية الضخمة التأقلم والتكيف، ومن هنا فإنَّ أهم ما نتعلمه من تاريخنا نحن الإنسان الحكيم أن سر بقائنا هو قدرتنا الفائقة على التكيف مع البيئة والتقلبات التي تحيط بنا، فلقد تكيفنا عبر تاريخنا الطويل مع قساوة الأجواء الباردة في سيبيريا وحرارة أفريقيا ورطوبة بعض أجزاء آسيا بل وتكيفنا حتى مع أكثر المناطق جفافاً في هذا العالم.

ومن هنا فإننا إذا أردنا أن نواجه كل التقلبات السريعة والمختلفة التي يمر بها هذا العالم في هذا العصر فعلينا أن نتعلم من أجدادنا ومن تاريخنا الطويل أن سر نجاحنا يكمن في سرعة تكيفنا وتغيير نمط حياتنا مع ما تمليه الظروف، تلك هي العبرة لمن اعتبر من تاريخنا نحن الإنسان الحكيم.

                                 

المصادر الرئيسية:

  1.  Human Origins, 7 million years and counting – New Scientist
  2.  A Pocket History of Human Evolution, How We Became Sapiens – Silvana Condemi, François Savatier
  3.  Sapiens, A Brief History of Humankind – Yuval Noah Harari.

الأكثر قراءة