الحرية والديمقراطية بين الإطلاق والتقييد

 

 

المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري

 

عدد سكان الكرة الأرضية يتجاوز سبعة مليارات نسمة ينضوون تحت عشرات بل مئات الدول ويقسم هذا العالم قسمين عالم صناعي مُتقدم وعالم نامٍ يغمز بأنه رجعي متخلف وهذا التقسيم تقسيم فرضه عملياً الذي يمتلك السياسة والاقتصاد والتقنيات والعلم وليس توافقا أو اتفاقاً.

وهناك وصف آخر وهو الشرق والغرب وهذا الوصف مهذب أكثر من الأول فهو تقسيم جغرافي بينما التقسيم الأول سمته ثقافية. الحريات والديمقراطية وحق التعبير بعض المُفردات التي تستهوي قطاعات من الشعوب والبعض ينادي بها كأبواب مفتوحة مشرعة في كل شيء عقدي وأخلاقي وسياسي أي كل ضابط يعتبر قيدًا وتحجيماً لها ينبغي كسره. ويوصف العالم المتقدم بأنَّه أبو الحريات والديمقراطيات حتى غدا عند كثير ممن يقطن ما يسمى بالعالم الثالث وكأنه الأنموذج الذي ينبغي الاستقاء منه بل صار قسم من مثقفي بلداننا يطلبون نسخة طبق الأصل مما عند الغرب من الشعارات. ويرى هذا القسم أن عالمنا الإسلامي عالم مستبد ديكتاتوري حاكمه فرعون ومستشاره هامان وقارون وسيف الحجاج بن يوسف وعبيد الله بن زياد.

بل يبلغ بهذا الصنف أن يطلب حرية وديمقراطية تطال حتى الذات العلية وتتجاوز منع التجديف وتتخطى قيود احترام النبيين والكتاب العزيز فضلاً عن المناداة بترك القيود التي تحجم النقد للمألوف من الأخلاق والأعراف السائدة.

ويدفع المطالبون باستنساخ ما لدى الغرب أمور منها إعجاب الضعيف بالقوي أو الانبهار بما لدى الآخر أو ضعف العلم بالثقافة التي ينتمون إليها فعندما يذهبون للغرب يعبون منه عبا ويملأون الخواء الذي لديهم بكم ثقافي من غيرهم فيذوبون في غيرهم ذوبان الملح في الماء. وقد يدفعهم لذلك اعتناق أحد الأفكار السائدة في العالم الغربي أو يكون الدافع لذلك هو نفسي كالتعرض لمواقف مؤذية في البلد الأصلي أو يكون الدافع هو الاستبداد في أقطارهم وتهميش النخبة أو مشاهدة الإخفاق تلو الإخفاق في عالم الشرق أو العالم الموسوم بالنامي.

عموماً لا يُمكن إنكار ما عليه دول العالم النامي من تخلف عن ركب الحضارة ومن عدم انتشار ثقافة النقد البناء وتقبله بقبول حسن إلا أنه لا يمكن أيضًا استنساخ ما لدى الغرب ليحل في دولنا لأمور منها: أنه لا توجد على الحقيقة حرية مُطلقة غير مقيدة حتى في الغرب نفسه فدول الغرب كباقي الدول في العالم فيها نظم وقوانين وصار العالم يفاخر بقوانين الدولة فهو معيار مهم لتمييزها عن الدول المتخلفة ومن هنا فإنَّ القوانين فيها ممنوعات وعقوبات على المنتهكين أي أن القوانين في حقيقتها تمنع كثيرًا من الحريات والممارسات.

ومن جهة أخرى فإنَّ ذات الدول الموسومة بالحريات وشيوع الديمقراطيات ورغم الحريات الكبيرة والكثيرة إلا أنها لا تمنح حريات مُطلقة بدليل أن الممارسات الإباحية الصارخة لا يُمكن مُمارستها في كثير من الأماكن بل هناك أماكن يمنع اصطحاب الدواب فيها بل هناك قضايا تاريخية يمنع البحث فيها أو التشكيك بها حتى لو كان الباحث فيها وصل إلى نتيجة بمقتضيات الدراسات لا بمقتضيات العرق أو الحقد فمثلاً يمنع في بعض أقطار الغرب التشكيك في عدد محرقة الهولوكوست فضلاً عن التشكيك فيها؟

ومن الأمثلة أيضاً على أنه ليس ما من حريات مطلقة حتى في بلاد الحريات وتماثيل الحريات أنَّ القامات والزعامات يمكن أن تتعرض لعزلها من ترشيح نفسها أو تتلاشى أصوات الراغبين في ترشيحها إذا ثبت قيامها بالتحرش الجنسي وكذلك يُمكن لهذه الزعامات أن تتشوه صورتها أو تتعرض للمساءلة إذا ما قامت بالتحرش وهي على المنصب بالرغم من أنَّ ممارسة الجنس فيها حرية كبيرة لكنه بالنسبة للقامات والزعامات يُعد مطعنا للخصوم فيهم.

الديمقراطية في الغرب صيغت بما يتفق مع ثقافته لذا من الخطورة بمكان استنساخها طبق الأصل إلى بيئة وقوم ثقافتهم تختلف عن ثقافة الآخرين. الثقافة في الغرب لا ترى ضيراً بل من المألوف إذا بلغت البنت سن ثماني عشرة سنة تأبطها صديقا وصحبته لها بل إن لم تختر شيئاً من ذلك قد يحتسبها بعض أقاربها أنها بحاجة إلى زيارة عيادة نفسية بينما في ثقافتنا الإسلامية وعاداتنا المجتمعية يعد عدم فعلها ذلك منقبة ومحمدة ودليل وعي وأخلاق عظيمة أما لو اصطحبت صديقاً وقادته للبيت فيُعد قلة أدب وتجاوز للأخلاق والقيم.

السب والشتم باللسان لا ترفع فيه دعوى في الغرب بل يُعد حرية وممارسة ديمقراطية بينما في ثقافتنا الإسلامية وأعرافنا الاجتماعية يعتبر السب والشتم ناقضا للصوم مبطلا للوضوء ومعصية لله يعاقب عليه القانون.

 

تلك الديمقراطيات غنية بالتناقضات أيضاً فهي قد تقف مع المعتدي ضد المعتدى عليه فترى المدافع عن أرضه وعرضه وميراث أجداده معتديا وقد تصفه بأوصاف سلبية بينما تحمي المعتدي المستولي على حق غيره؟

ذات تلك الحريات ورموز دعاة الديمقراطيات لا ترغب أحيانا في وصول دول العالم الثالث لأي ديمقراطية لأنها تعتقد أن سيادة الحريات تعني انقلاب الناس عن سلطة الغرب وتمردهم على رموزه لذا فالعالم المتقدم يمنح بعض الحريات التي تخدمه لكن يحرم بعضها على عالمنا بل قد يدعم أشد وأعتى الديكتاتوريات التي تحفظ مصالحه وتتناغم معه.

العالم المتقدم نفسه يتجاوز برلماناته بل قد يعتدي على قدسية تلك البرلمانات فلا نستطيع إحصاء عدد المرات التي صوت فيها البرلمان الأوروبي بوقف دوله تسليح الدول التي تهاجم دولا وتحاصر شعوباً ومع ذلك فالسلاح يتدفق بأريحية فأين قداسة البرلمان؟

برلمان من البرلمانات دعا مرارا إلى محاكمة من يتولى قيادة الحكومة والذي ضلل الشعب بقوله إنَّ العراق يمتلك أسلحة نووية وأسفر ذلك عن حصار رهيب وموت آلاف وتجويع شعب ثم أسفر عن حرب حارقة فأين المحاكمات؟

إنَّ الأحداث الأخيرة أبانت لنا هشاشة ما يسمى بالديمقراطيات وكذلك كشفت لنا عوار ما هنالك. لا أنكر إيجابيات هناك ولكن ليس ذلك العالم هو جنة الخلد والملك الذي لا يبلى وليس هو الموئل والمصدر والمقتدى. ولا أنكر أن العالم الثالث يعيش سلبيات كثيرة ويعاني من تحكم في بعض أموره ولكن جعل الغرب القدوة والمصير فيه إجحاف كبير.

ما الفرق أحيانا بين ما يحدث في بعض دول العالم المتقدم وبعض دول العالم النامي من انتهاك حرمات سيادية وسياسية مقدسة؟

الحرية كل عاشق لها ذائب فيها لأنها فطرة وجبلة لكن لابد من تأطيرها وتقنينها كما لا يلزم استنساخ ما عند الآخرين بل لا بد أن تكون نابعة من صلب المجتمعات وثقافتها. الحرية المطلقة وهم زعم بدليل وجود القوانين وهل القوانين إلا موانع ومحددات وحواجز وحجاب حاجز؟ الحريات المطلقة قد تبلغ التطاول على ذات الله العلية أو الأنبياء الكرام لذا لا بد أن يكون الأمر فيه صيانة. الاستبداد أيضاً من أسباب الاحتقان وتشظي المجتمعات والشعور بالحياة العبثية فالكبت يولد الانفجار. وعلينا التنبه أيضاً إلى أن هناك من يدعو إلى الديمقراطية لكنه من أشد أعدائها وهذا يتجلى في كبته موظفيه أو عدم توزيعه العمل أو نسبة المنجز إليه أو تغييب العاملين في قسمه أو دائرته فهذا عين الاستبداد ومناقض للحرية.