قبل الوداع.. شكرًا ترامب!

 

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

 

ترامب ظاهرة رئاسية أمريكية مُنفردة ومُتفردة، حكم وتحكَّم بالعالم لأربعة أعوام متتالية، رفع شعار "أمريكا أولا" واشتغل على تحقيقه طيلة سنوات حكمه، قلب الكرة الأرضية رأساً على عقب، وأشعل ما كان منطفئاً، أخرج الفئران المختبئة من جحورها، وابتز العالم أجمع، ولم ينصت لصوت العاطفة ولا العقل، أنجز في أربع سنوات ما خططت له أمريكا على مدى مائة عام، وجسّد (شهوة السلطة) في أكمل صورها.

لم يكن مصادفة نشوب الأزمة الخليجية في عهده، وانطفائها بشكل ملفت في نهاية فترة رئاسته، استطاع ابتزاز كل دولة على حدة، ولعب لعبة التوازن الاستراتيجي للمنطقة على كل الأطراف، وأخرج الفزاعة الإيرانية من قمقمها، وهدَّد بها وتوعد، وحقق لإسرائيل في أقل من سنة ما لم تُحققه طيلة فترة ظهورها، حتى أصبحت كائناً طبيعياً مقبولاً ومرحباً به لدى العرب، وغير قابل للزوال أو المساومة، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو ما لم يجرؤ أي رئيس أمريكي على فعله، ليس خوفاً من العرب، ولكن خوفاً على مصداقية وحيادية الولايات المتحدة، غير أنَّ ترامب خلط الأوراق وترك الكرة في ملعب من يأتي بعده.

ضرب ترامب بكل الاتفاقيات الدولية التي وقعتها أمريكا عرض الحائط، وأولها الاتفاق النووي الإيراني، وحاصر إيران كما لم يفعل أي رئيس قبله منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما أن اتفاقية المناخ لم تسلم منه، وحارب كل دولة منافسة كالصين، وهاجم كل دولة لم ترضخ له، وأشعل حماس الأمريكيين المتعصبين، ونشر الكراهية الشعبوية في عموم بلاده، وأعاد إلى الأذهان فترة الحرب الأمريكية الأهلية، وكان "رجل تويتر" بامتياز، فكل ما كان يُفكر به يكتبه وينشره دون تردد، أو مُراجعة.

وكما جاء ترامب إلى الحكم عاصفاً، خرج منه عاصفاً، وكما هدد قبل أن ينصّب رئيساً لأمريكا بأنه إذا لم يفز على هيلاري كلينتون فمعنى ذلك أنَّ الانتخابات مزورة، لم يقتنع بنتائج انتخابات الرئاسة التي خسرها، ولم يقر بها، وتوعد- كما كان في البداية- بأنَّ الانتخابات والنتائج مزورة إذا لم يكن هو الفائز، ورغم عدم امتلاكه أي دليل، ورغم الأحكام القضائية التي توالت بصحة النتائج، تبعه كثير من الأمريكيين المتعصبين، ولم يهدأ إلا بعد أن اقتحم (رجاله) مقر الكونجرس، وقُتل منهم من قُتل، وأصيب من أصيب، ورغم ذلك لم يعترف بالهزيمة.

لقد كان ترامب ظاهرة سلطوية غير عادية، فهو الذي نشر الفوضى في الكرة الأرضية، وهو الذي قلب موازين الاستراتيجية الأمريكية الدولية رأساً على عقب، وهو الذي مثّل البراجماتية السياسية في أوضح صورها، وهو الذي أسقط أقنعة كثير من العرب، وشعارات (العدو الصهيوني) و(الشقيق العربي) التي تلاعبوا بها لسنوات طويلة، واختصر الزمن الذي كانت ستستغرقه الخطط الأمريكية لقبول إسرائيل كجسم طبيعي في الوطن العربي إلى أقل من سنة.

لقد عرّى ترامب وجوه العالم، كما عرّى وجه أمريكا، والديموقراطية، وها هو يُغادر البيت الأبيض ولكن الصورة التي رسمها للعرب في أذهان العالم لن تزول، والتي سيلعب عليها الرؤساء الأمريكيون الذين سيأتون بعده، ولا أظن أنَّ تاريخ تنصيب العشرين من الشهر الحالي والتي سينصب فيها الرئيس الجديد سيمر دون أن يضع ترامب عليها بصمته الأخيرة، التي قد لا تزول بسهولة.