خالد بن الصافي الحريبي
"ما تبحث عنه يبحث عنك" كما قال الفقيه والشاعر المتصوف جَلال الدين الرُّومي، ضمن حِكمه وقواعده التي تُيَسر لنا فهم مقصد الحديث الشريف عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبما أننا في مقتبل عام جديد سعيد- بإذن الله- أنوي هنا أن أكمل مسيرة المقالات الثمانية السابقة في التطرق إلى القواعد السياسية التي سارت عليها الأمم المطمئنة والمزدهرة عبر التاريخ، لعلها وعبر هذه النافذة الأسبوعية أن تصل يوماً ما لأربعين قاعدة تسهم في رسم خطى نيّرة مُطمئنة لمن يقرأ ويتابع هذه المقالات. وعطفاً على ما سبق في مقدمة هذه المقالة، فإنه تاريخياً لم يفلح العالم في أن يُرفع عنه ابتلاء إلا بعد بحث وتمحيص وتدقيق ليتم بعد ذلك استخلاص الدروس والعبر والوصول إلى نيّة فضلى تقود مسيرة العلاج والتشافي تتجدد بعد المحن والصعاب التي مرَّت بها تلك الأمم فتكون سبباً لنجاتها بعد مشئية الله عز وجل، وبالنظر في عالمنا المحيط قد يرصد البعض أن هناك من هذه الأمم التي لم تستوعب دروس العام المنصرم 2020، وتنوي مواصلة البحث عن الهيمنة الاقتصادية أو التوسع العسكري أو التدخلات السياسية أو غيرها مما يضر البشرية ولا ينفعها. وهنا قد نتساءل؛ لماذا الآن علينا أن نجدد النوايا لإعمار الأرض؟ وما هي الخيارات المتاحة أمامنا؟ وكيف نسلي أنفسنا عن مصابنا في العام المنصرم؟
المحنة والمنحة
لا يخفى على أحد أنَّ التعرف على المنحة المخفية التي تكون داخل كل محنة ظاهرة يتطلب توقيتاً سليماً ونيةً صادقةً وجهوداً مخلصة للإعمار بعد المصاب. وإحدى المخاطر الحقيقية حالياً ونحن نتعايش مع جائحة فيروس كورونا (كوفيد19) الذي من المتوقع أن يصل عدد المصابين به إلى مائة مليون نسمة، ومتوقع كذلك أن تصل عدد وفياته لمليوني نسمة بحلول نهاية هذا العام 2021، تتمثل في أنَّ العالم يعود إلى نفس العادات القديمة التي تسبب المحن والأوبئة. لذا فإننا في أمس الحاجة إلى أن نعيَّ أن اليوم هو الوقت المناسب للبحث عن نوايا متجددة للإعمار تجعلنا نستشعر فضل المنح التي تأتينا من رحم المحن؛ وتقينا شر الجشع في الغذاء الذي تسبب في انتقال الفيروس من الحيوان إلى البشر، وتحمينا من شر الاحتكار الذي أبطأ جهود وسلسلة إنتاج الأدوات الوقائية الطبية، وتجنبنا شر الجهل الذي يسهم في نشر الإشاعات المغرضة عن اللقاحات. وبما أننا من الأمم المطمئنة الصادقة في عزمها على أن تتقدم بثقة فعلينا أن نسعى للاستثمار في توفير الأمن الغذائي والمائي المستدام لجميع من هم على هذه الأرض الطيبة، وأن نستثمر في مؤسسات القيمة المضافة المحلية التي تبتكر منتجات صحية بالتعاون مع الشركات المتقدمة عالمياً، وأن نستثمر في منصات التعليم المدمج بصورة تبسط علينا جميعاً تبنيها والاستفادة منها وتقينا شر الأخبار الزائفة والعلم الذي لا ينفع.
خيارات مستقبلنا بين الاقتصاد المتعدد الألوان
إن الأمم المطمئنة لا تبحث إلا عن ما يتوافق مع نواياها للخير والسلام لنفسها وللعالم أجمع. ومن جانب آخر نرى ويرى العالم كيف أن الرئيس الأمريكي السابق الـ45 دونالد ترامب لم يفتأ يذكر أن لا نية لأمريكا سوى أن تكون الأولى في كل مجال، وأن على كل دول العالم أن تسهم في تحقيق هذا الهدف. بل تبع فكره كثير من الأمريكيين والأوروبيين والروس والصينيين والهنود والإسرائيليين، وبدأوا باعتناق ذات الهدف المنشود وسعوا جاهدين لأن يخضِعوا أسواق العالم لتحقيق طموحاتهم الاقتصادية القومية والوصول لمبتغاهم، دون النظر إلى عواقب هذه النوايا على الأمم الأخرى بصورة عامة، وعلى المجتمعات المسلمة والعربية بصورة خاصة.
وعلى الرغم من أنَّ هذه الأمم تنجح مؤقتاً في تحقيق تقدم أهدافها القومية لأنها سخرت إمكاناتها وبنت كفاءاتها التي نفذت لها الرؤى والخطط والمؤشرات، إلا أنَّه عبر التاريخ الأمم التي تنوي أن تحكم بالعدل لا تتجدد. فبينما خلال العقد الماضي تنافست الأمم في صناعات الاقتصاد الأزرق الذي يعتمد على خيرات المحيطات، والأخضر الذي يعتمد على الزراعة والمياه وما يسمى بالطاقة النظيفة فإنَّ التنافس بدأ ينتشر إلى صناعات جديدة تعددت أنواعها ووسائلها وأهدافها.
إن التنافس الحقيقي اليوم تعدى التنافس في الاستحواذ على الأسواق العالمية التقليدية إلى الاستحواذ على نصيب الأسد مما يسمى بـ"الاقتصاد البرتقالي"، ويقصد به الاقتصاد الذي يركز على تنمية الصناعات التي يلتقي فيها الإبداع والابتكار بالعلوم والآداب وتقنية المعلومات والاتصالات. ولايكاد يمر يوم لا نرى فيه تنافسا محموما بين شركات التكنولوجيا العالمية على لشد انتبهنا وبياناتنا وقوتنا الشرائية، وأصبحت هذه الشركات تعرف بفانجام (Facebook- Apple- Netflix- Google- Amazon- Microsoft)، ونظرا لنمو العمل من المنزل وصناعة الترفيه فقد أصبحت هذه الاقتصادات تتنافس في القوة الناعمة عبر إبراز محاسن ثقافتها ولغاتها ونشرها عبر العالم وتحويلها لبضاعة رائجة في الأفلام والكتب والقصص والمنصات، أو ما يسمى بـ"الاقتصاد البنفسجي".
وعلى الرغم من هذا كله ومن تعدد الاقتصادات إلا أن الفرص لا تزال أمامنا لكي نعقد النية المتجددة لجعلنا نعيش سعداء لمستقبل أفضل وفجر جديد يشرق علينا بفكر متجدد. ولا يتم هذا إلا باستيعاب الدروس المستفادة من جائحة كوفيد19 وبناء صناعات مبنية على الابتكار والثقافة، ويكفينا أن سوق المتحدثين باللغة العربية يقارب النصف مليار من البشر.
يناير والأسباب التي تعلمونها
وللأسباب التي تعلمونها شهر يناير يختلف منذ العام الماضي وقد غدا مختلفا عن غيره من شهور العام. وأعترف أنني خلال الـ366 يوماً الماضية لم أقو على نظم نثرٍ أو غيره يرقى لأن يصلح تأبينا لمن أخلص النية لله عزّ وجلّ على مدى ثمانين حولاً "لجعلكم تعيشون سعداء" ولمن صدق وعده أن "بعون الله غدا سيشرق فجرٌ جديدٌ على عُمان وعلى أهلها". وأكاد أجْزم أن خطاب خير خلفٍ مولانا السلطان هيثم بن طارق أيَده الله عن "أعزَّ الرجال وأنقاهم" هو ما أسهم ويسهم في إلهامنا الصبر والسلوان على وداع السلطان قابوس- طيب الله ثراه-.
وفي ذكر الوداع، وكما بدأت المقال بقواعد جلال الدين الرومي في العشق أختتم بها حيث يقول "الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه، أما من يعشق بروحه وقلبه فلا انفصال أبدًا. لا تحزن؛ فأيُّ شيء تفقده سيعود إليك في هيئة أخرى. ما الجسد إلا رداء خارجي للروح الخالدة؛ فلا تطلب الرداء ولكن خاطب المرتدي. تعلمت أن كل نفس ذائقة الموت إلا أنَّ الحياة لا تتذوقها إلا بعض الأنفس".
رحِم الله كل من بانَ وبِنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليهم ولا جفت مآقينا، كما قال ابن زيدون، ورحِم كل من أخلص النية في سعيه لأن نعيش سعداء وألهمنا بقلبه العاشق لوطنه وفكره المستنير وعزيمته الصادقة في إفشاء المحبة والسلام وروحه النضالية العاشقة لكل ما هو جميل، إنك سبحانك جميل تحب الجمال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.