المرأة هي الحياة

عبدالله الفارسي

 

هالني ذلك الخبر القاتم القادم من اليمن منذ أيام، خبر يحمل النَّار وينفث الدخان، زوج من مُحافظة حضرموت يحرق زوجته الشابة في فناء البيت أمام أطفالها، أحرقني الخبر وهزَّني درجة التشظي واللعنة، أي إنسان هذا الذي يحرق الحياة، ويقتل النور، ويمحق الحب ويطفىء الشمس.

المرأة أيقونة النور في هذا العالم إنِّها الحياة إنِّها الحب إنِّها الحنان إنِّها الأمان إنِّها الأم إنِّها الأبنة إنِّها الأخت إنِّها الزوجة؛ تذكرت قصة مع الفارق الفلكي في المُقارنة بين الحالتين. ففي إحدى زيارتي للأردن كنت مع صديقي المرحوم نوفل طويسات في "إربد"، وكانت تسكن بجواره عائلة مكونة من زوج وزوجة وأربعة من الأبناء، كنَّا غالباً حين نخرج من بيت صديقي نجد جارنا جالساً في كرسيه أمام داره، فنبادله السلام ويُبادلنا التحية. فسألت نوفل لماذا هذا الرجل لا يتحرك أبداً من كرسيه، وكأنه شرطيٌّ مكلفٌ بالجلوس والحراسة؟ فقال نوفل: فعلاً هو حارس لا يبرح كرسيه، لكنه حارس مُخلص ووفي وأمين. أخبرني صديقي نوفل قصة هذا الرجل وقصة زوجته العجيبة العظيمة.

يقول صديقي: هذا الرجل الخمسيني والذي مازال الشباب يتفجر من وجهه والنشاط يلمع في عينيه كذئب يافع، كان في بداية زواجه عربيدًا كبيرًا، كان لا يدخل بيته إلا وهو مترنح، كان إنساناً مؤذياً لزوجته وأطفاله بكل معنى الكلمة، وكانت الزوجة هي أمان البيت وهي حياته، هي نوره وأضواؤه ومصابيحه، هي من يُربي ويُعاني ويعلم، وهي من يشتري ويطبخ وينفخ ويمسح ويغسل ويكنس، لقد كانت الزوجة هي الحياة التي تسكن هذا البيت وتمنحه البقاء والدوام والاستمرار.

وحين يعود زوجها نهاية كل مساء يبدأ بضربها ولطمها وبعد أن ينتهي من ضربها يسقط فاقداً وعيه، حينها يأتي دور العظمة،. يأتي دور الحياة، يأتي دور الصبر والوفاء والروعة، فحين يسقط الزوج أرضًا، تقوم الزوجة المضروبة بخلع حذائه وتنظيفه وسحبه كعجل نافق إلى فراشه، فتغطيه وتطبع قبلة على وجهه المتفجر برائحة الكحول وتدعو له بالهداية والتوبة.

عاشت عشرين عاماً ثقيلة طويلة مريرة مكافحة محتملة حالة زوجها البائسة تلك، ومنذ سنوات قليلة هداه الله وترك السكر، فاستقام وتاب والتزم وبدأ يعتني بعائلته. شاءت الأقدار أن تُصاب زوجته المسكينة بجلطة دماغية سقطت على إثرها مشلولة عاجزة طريحة الفراش.

يقول نوفل: سألته: لماذا لا تحضر لزوجتك من يعتني بها؟ فأجابه الجار الزوج: لو كنت أنا المشلول المُقعد في فراشي لرفضت أن تحضر لي من يعتني بي، ولعاشت بقية عمرها منحنية فوق رأسي حتى أموت وتموت هي بجانبي.

يقول الزوج: هذه المرأة العظيمة تحملت ضلالي وفسقي وعهري وسكري وعربتدي وغطرستي أكثر من عشرين عامًا، ولم تذهب يوماً ما تشتكيني عند أهلها، ولو اشتكت مرة واحدة فقط لجاء إخوتها مساءً وكسروا جمجمتي ودفنوني حيًّا، وعادوا ينفضون التراب عن أردانهم  وهم يتضاحكون.

ولكنها كانت فوق هذه الصفات، عشرون عاماً وأنا أضربها وأقسو عليها وأهينها ولم يعرف أحد من عائلتها الكبيرة شيئاً عمَّا يحدث معها، هذه ليست مجرد زوجة أيها الجار العزيز هذه ملاك. وبعد أن أعادتني من طريق الضلال ووضعتني في طريق الهداية سقطت مشلولة عاجزة، هل أتركها؟ لا والله، إنَّ الله أراد أن يختبرني فيها هل سأكون رجلاً شريفاً وأصيلاً مثلها وأعيد الدين لها واعتني بها كما اعتنت بي وأصونها كما صانتني.

يستأنف الرجل: أخي نوفل: لا تعلم كم هي سعادتي حين ادخل عليها وأقوم بواجبي نحوها، وأرى البسمة ترتسم على وجهها، وأنا على يقين بأنني لن أتمكن من رد عُشر جميلها أو جزء يسير من عظيم فضلها ووفائها... انتهت الرواية.

هذه القصة قصة أغلب نسائنا المؤمنات الطيبات المخلصات، إنهن صاحبات الفضل في إرساء قواعد البيوت وثباتها واستقرارها، إنهن "دينمو" الحياة التي تدب في البيوت لتمنحها نشاطاً وحركة وحباً وأملا وبقاء وسيرورة. الزوجات هنَّ الطعام والشراب والدفء والثقة والتناغم والانسجام مع الحياة، إنهن الوفاء والصدق والأخلاق والشفاء والدواء والعافية، المرأة ليست نصف المجتمع بل كل الحياة هي كل الوجود. إنها النبع الصافي والماء الدافئ والطعام الشهي والفراش الهنيء، إنهن مصابيح البيوت وأنوارها وشموعها، إنِّهن بخورها وعطورها وأريجها. كيف سيكون حال بيوتنا لولا وجود أمهاتنا، كيف سيكون وضع أسرنا وأولادنا لولا وجود وجهود زوجاتنا، لا أتخيل أبدًا بيتاً بدون الأم الزوجة الشريكة والرفيقة. الزوجة عتبة البيت وركيزته وعموده وسقفه وظله وظلاله. إنِّها شمعة الحياة التي تضيء لنا عتمة الكون لتجعل من هذه الحياة الموحشة حديقة تتراقص في سمائها النجوم والثريات والأضواء.

أي طاقة تملكها المرأة حتى تحتمل كل هفواتنا وسقطونا؟! أي طاقة تلك التي تملكها المرأة لتروض نفوسنا المتمردة وأرواحنا المُتقلبة وأمزجتنا المتأرجحة؟!

إنِّها المرأة ذلك المخلوق العظيم الذي خلق ليطفئ نيراننا وحرائقنا وكل اشتعالاتنا.. إنها وجدت لتصنع منِّا منهجا في الاستقامة وقاعدة في الثبات والربح والنجاح.

فشكراً لشريكات الحياة شكراً لأمهات الأبناء؛ شكرا عظيماً لكل زوجة صبور؛ وشكراً كبيراً لكل أم رؤوم؛ وشكراً شكراً لكل أخت حنون. وكل عام وأنتن بأفضل حال، وأجمل مكان.