لا شيء أقوى من أفكار جاء زمانها

 

د. سيف المعمري

إنَّه الزمن الذي يجعل بعض الأفكار تمرُّ بسرعة وسلام وبدون مقاومة، ليس لأنَّ هناك مناصرين لها، ولكن لأنَّ الضرورة هي من فتحت لها الأبواب على مصراعيها لكي تخرج من الظلمات إلى النور، ومن العقول إلى الواقع، ومن الورق إلى التنفيذ، ومن اللجان إلى الحقيقة، وليس هناك أقوى من أفكار جاء وقتها كما يقول الروائي فيكتور هوجو.

هذا ما يُمكن أن نقرأ به الأفكار الاقتصادية والإدارية التي خَرَجت هذا العام من أروقة المؤسسات الرسمية، إنَّها تغير كبير بالمقاييس التي عرفنا بها التغير فيما مضى، لكنه  تغير إجباري وليس اختياريًّا، طالما حرَّكته أزمة كبيرة، هذا التغيُّر له تبعاته الاجتماعية العميقة التي لا يمكن تجاهلها خاصة على المدى الطويل، إلا أنه ضرورة لتحقيق التوزان، وما أصعب التوازن في ظل ما خلفته جائحة كورونا على اقتصادات العالم، إنه التحدي الأكبر للدول والمجتمعات التي تعتمد على مورد اقتصادي واحد يتأثر سلبا بأي طارئ في العالم المترابط.

القاعدة الفقهية تنصُّ على أنَّ الضرورات تُبيح المحظورات، وهي القاعدة نفسها التي يتم بها التعامل مع الأزمات، ومن منطلق مرور الأفكار والقرارات بسرعة خلال هذا العام، لمعالجة الاختلالات الناتجة، نطرح سؤالا مهمًّا هو: ما حدود مرور الأفكار التي نحتاجها للخروج من سندان الأزمات، والتقلبات، والأوضاع الصعبة؟ هل هي هذه الأفكار المالية الرامية لمعالجة الوضع الراهن فقط. أم أن الظرف يتطلب تطبيقَ كثيرٍ من الأفكار الاقتصادية المتعلقة بقيود الاستثمار وتحريك السياحة وتخفيف الإجراءات.. وغيرها من الجوانب التي تعيق الوضع الاقتصادي منذ عقود، وقادت إلى جزء كبير من التأزم المالي والاقتصادي الحالي، فهل بالإمكان توسيع صلاحيات المجالس المختلفة (الشورى والبلدية)، وتحريكها لكي تقوم بأدوار أكبر في العمل الرقابي والتشريعي؟ ماذا عن الأفكار  الإعلامية التي تتطلب تشريعا محفزا على العمل والحركة بما يعكس احتياجات البلد في القرن الحادي والعشرين؟

الأمر ينطبق على الجوانب التعليمية والمدنية...وغيرها، والتي تتطلَّب أفكارًا من أجل تحريك التغير فيها بما يعزز من القدرة في مواجهة هذه الأوضاع الاستثنائية، وكذلك تلبية متطلبات المستقبل الذي يتطلب أفكار مختلفة، ومرونة كبيرة، وتوجهات جديدة تتوافق وما يفاجئنا به من تحولات سريعة غير معروفة ومن الصعب التنبؤ بها.

علينا أن نقر بأننا نمضي إلى المستقبل بمتطلبات صعبة، وأنَّ الأفكار الواعدة التي تخدم مصالحنا الوطنية ينبغي أن تمرَّ كما مرت كثير من الأفكار الصعبة هذا العام، فلا شيء أصعب من إعاقة فكرة حان أوانها بعد أن تأجلت لسنين بحجة أنه لم يحِن هذا الأوان، فالتغيُّر الذي تأتي به الضرورات يختلف عن التغير الذي تأتي به القناعات والرؤى الثاقبة، وجميعنا على يقين بأن العهد الجديد يُجسد تطلعاتنا الكبيرة لمستقبل أفضل، نقلص فيه نسبة الديون، ونوسع فيه من خرائط الاستثمار المربح والآمن، ونعبِّد الأرض لعمل المجالس، ولحراك الطاقات الشابة مدنيا ورسميا، ونزيد منه الأمان الاقتصادي للمواطنين، وغيرها من التطلعات التي يحملها الجميع حتى في عمق هذه الأزمة، ولا يمكن ترحيلها لعقد آخر، فلا وقت لإضاعة الفرص والأفكار، أو ترحيلها فلا شيء أصعب من الانتظار لأنه على حد تعبير نوال السعداوي يحول "الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى"، وما نشهده أن هناك رغبة جادة في استعادة الزمن والأشياء وإعطاء المعنى الحقيقي لنهضة متجددة تمنح الأفكار المفيدة جواز مرور لأفكار التغيُّر وتتبناها بسرعة القرن الحادي والعشرين، وبالسرعة التي تعاملت بها مع الوضع خلال هذا العام.

تعليق عبر الفيس بوك