بين "الانتحار" و"الانتصار"

عبدالله الفارسي

"جيكارشنا" الفتاة البنغالية التي انتصرت..

وأنا أتابع بامتعاض وغضب الهشتاق الذي تصدَّر تويتر في اليومين الماضيين والمُتعلق بانتحار طالبة جامعية في ريعان الشباب أسأل الله أن يعفو عنها ويرحمها، تذكرت قصة فتاة بنغلاديشية قرأتها في صحيفة سعودية منذ سنوات، سأسردها لكم لعل هذه القصة يتعلم منها أولئك الذين يتعاطفون مع جريمة الانتحار ويتناغمون مع المُخطئين ويصفقون لليائسين ويصفرون للمُحبطين.

تقول القصة على لسان سيدة بنغالية قوية ومُكافحة اسمها "جيكاريشنا" إذا لم تخنِ الذاكرة. وتقول السيدة جيكاريشنا ولدت في قرية فقيرة جداً في جنوب غرب بنجلاديش.. لكنني ولدت ولادة مُتميزة جدًا فالجميع ولدوا في بيت من السعف أو من الخشب وبعضهم ولدوا في غرفة من الأسمنت أو الطين.

أما أنا فقد ولدت في أنبوب من الحديد الصديء..

نعم ولدت في أنبوب مجرى نهري قديم .. فلم يكن أبي يملك بيتاً أو حتى مبلغاً يشتري به أربعة ألواح خشبية ليصنع منها مكاناً نأوي إليه أنا وأمي وأختي الصغيرة.. كان أبي بالكاد يستطيع أن يحضر لنا رغيف خبز ساخن في اليوم الواحد أو كيلو من الرز الرخيص لننام وبطوننا فارغة من الهواء.

فعشنا في ذلك الأنبوب .. وكلما فاض النهر خرجنا في العراء ليوم أو يومين حتى ينحسر الماء من الأنبوب ويجف ثم نعود إليه فرحين مستبشرين.

توفي أبي متأثرا بمرض السل وأنا في السابعة من عمري ..

 

ثم توفيت أمي بعده مُباشرة بنفس المرض .. ثم توفيت أختي الصغيرة بعد وفاة أمي بأربعة أشهر

كنت حينها قد بلغت الثامنة.. أخذني عمي معه ولكنه سخرني لخدمته كأنني جحشة صغيرة أو جاموسة قوية.

كان يستخدمني في حقله ليل نهار مُقابل صحن رز بدون إدام ..ثم تكمل زوجته المهمة وتمارس تعذيبها لي في بيتها غسلاً وكنساً وطبخاً.

تحملت ذلك الاستعباد أربع سنوات كاملة وحين شعرت بأنَّ قدمي قويتين كخشبتين ويداي صلبتين كقطعتي ألمنيوم قفزت فوق أول قطار متجه إلى العاصمة دكا..

دكا مدينة الجحيم والنعيم مدينة الأموات والأثرياء مدينة العظام الناتئة والبطون المنتفخة والأفواه الجائعة .. نزلت من القطار فالتقفتني عصابة مُتخصصة في سرقة الأطفال واستئجارهم..كانوا يستخدموننا في عدة أعمال التسول بيع الحبوب المخدرة والقوادة والجنس..

لكنهم كانوا كرماء معنا كانوا يوفرون لنا مكاناً وفراشاً ننام عليه.. ويطعموننا مرتين في اليوم..

كان ذلك أجمل شيء أحصل عليه في حياتي..

 

ففي بنجلاديش أن تحصل على طعام وفراش فتلك أعظم نعمة يمنحها الله لك.

فأنا لم يسبق لي أن أكلت دجاجاً أو لحما أو عدسا .. لم يسبق لي أن أكلت أرزا مغموساً بالصلصة أو ممزوجاً بالخضار .. ظللت عشر سنوات وأنا مع تلك العصابة

اغتصبوني عشرات المرات فقد كنت ذات بشرة بيضاء وملامح جميلة.. استطعت أن أجمع مبلغًا لاستخراج جواز سفر..وبالصدفة وجدت سمسارًا عرض عليَّ العمل في المملكة العربية السعودية..

أعطيته كل "تاكا" أدخرته طوال العشر سنوات العصيبة الماضية ومنحته البقية الباقية من شرفي والذي لم يكن قد بقي منه شيء أساسا..!!

وسافرت إلى السعودية.. وكان الكفيل رجلاً صحراوياً بدوياً جلفاً استخدمني في رعاية بيته وإطعام أبقاره.. فكان يعطف على حيواناته أكثر من عطفه عليَّ .. كان يسومني سوء العذاب.. ولكنه كان يُعطيني راتبي كاملا غير منقوص .. وكان يطعمني جيداً ووفر لي غرفة منفصلة .. فكانت المرة الأولى والتجربة الفريدة في حياتي حيث أنام بمفردي وأغلق الباب على نفسي واستخدم حماماً لا يستخدمه غيري واستحم لوحدي دون مشاركة عيون الآخرين وأصابعهم.

وضعت الريال فوق الريال.. انقضت اثنتا عشر عاماً كاملة وأنا في بيت ذلك البدوي حيث اعتدت على تلك الحالة المزرية من التعب والألم والأعمال المضنية.

أنهض من الرابعة فجراً .. وأسقط في فراشي جثة هامدة في العاشرة ليلاً .

جمعت مبلغاً محترماً من المال كان يكفيني لإنشاء مشروع صغير في قريتي.

عدت إلى دكا عاصمة البؤس والألم والأطفال المسروقة والبراءة المغتصبة والنعيم والجحيم والأثرياء والبؤساء وضحايا الجوع وأموات التخمة.

وتوجهت إلى قريتي الصغيرة .. وفتحت بقالة محترمة.. كانت الأفضل والأكبر في القرية..

وتزوجت وأنجبت ثلاثة من الأبناء اثنان منهم في بريطانيا والثالث في كندا .. وفي أفضل التخصصات العلمية.

تقول السيدة المناضلة المكافحة:

المهم في الحياة أن تُقاوم .. أن تنهض من الرماد .. أن تخرج من فم التمساح.. أن تقفز فوق الأشواك .. أن تنتصر على البؤس.. أن تقهر شياطين الإنس وتدوسهم .. وتمضي.. لا تلتفت للوراء .. فالوراء مظلم ومبوء .. وقاتم.. وقاتل.

المرأة الهندوسية "جكاريشنا" لم تنتحر .. بل رضيت بقضاء الله .. وتحملت جحيم الحياة أكثر من ثلاثين عامًا وانتصرت في نهاية الطريق..

تعيش الآن في سعادة كبيرة على أنقاض ثلاثين عامًا من التعاسة والألم والعذاب والخراب والحزن..

المهم هو من يضحك في النهاية. أمثال هذه المرأة البنغالية الصلبة هي من يستحق الحياة عن جدارة واستحقاق .. لأنَّ الحياة لا تحترم الأرواح الهشة والقلوب اللينة والمشاعر المايعة..

فهنيئاً .. وتصفيقاً حاراً لكل المقهورين الصابرين الأقوياء في هذا الكوكب القاسي.