ترجمة - الرؤية
يَفضَح الصحفيُّ والكاتبُ الإسرائيليُّ رونين بيرجمان، في كتاب له بعنوان "انهض واقتل أولا"، التاريخَ السريَّ للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة، مُستندا في ذلك إلى معرفته ودرايته ببواطن الأمور في مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي وغيره من الدوائر الأمنية هناك.
وبيرجمان صحفي استقصائي وكاتب إسرائيلي، ومحلل سياسي وعسكري بارز لدى صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية واسعة الانتشار، كما أنَّه كاتب مقالات في العديد من الصحف البريطانية والأمريكية.
ويقول بيرجمان إن كتاب التلمود وهو تعاليم الديانة اليهودية، يتضمن آية تنص على أنه: "إذا جاء أحد ليقتلك فانهض واقتله أولاً"، مشيرا إلى أن غريزة اتخاذ كل إجراء -حتى الأكثر عدوانية- للدفاع عن الشعب اليهودي، أمر متأصل في الحمض النووي لإسرائيل، على حد وصفه في كتابه الذي يعد الأكثر مبيعا على قائمة مبيعات نيويورك.
ومنذ بداية قيام دولة إسرائيل عام 1948، مثل هدف حماية اليهود من الأذى مسؤولية أجهزة استخباراتها وقواتها المسلحة، واعتمدت في ذلك على سلاح واحد ضمن ترسانتها الهائلة، لإحباط أخطر التهديدات، ألا وهو سلاح "الاغتيالات المستهدفة" والتي استخدمتها إسرائيل مرات لا تحصى، ضد من تعتبرهم أعدائها، كبارا أو صغارا، وأحيانًا للرد على الهجمات ضدها وأحيانًا بصورة استباقية.
وفي هذا الكتاب اللافت للنظر، يقدم الصحفي والمحلل العسكري رونين بيرجمان، سردًا مثيرًا لبرامج القتل المستهدف، من حيث نجاحاتها وإخفاقاتها والثمن المعنوي والسياسي المفروض على الرجال والنساء الذين وافقوا ونفذوا المهمات.
وحظي بيرجمان بتعاون نادر للغاية من العديد من أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحاليين والسابقين، بما في ذلك رؤساء الوزراء شيمون بيريز وإيهود باراك وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو، فضلاً عن شخصيات رفيعة المستوى في أجهزة الجيش والاستخبارات، مثل: الجيش والموساد وهو الجهاز المسؤول عن الهجمات على "الأهداف الثمينة"، بجانب جهاز الشين بيت (جهاز الأمن الداخلي الذي نفذ أكبر حملة اغتيالات مستهدفة على الإطلاق)، من أجل وقف ما بدا أنه لا يمكن وقفه: وهي العمليات الانتحارية التي ينفذها الفلسطينيون.
وينقب الكتاب في الحسابات السرية للعمليات الرئيسية التي لم يتم الإبلاغ عنها من قبل، استنادًا إلى مئات المقابلات المسجلة وآلاف الملفات التي حصل بيرجمان عليها حصريا، على مدار عقود من إعداد التقارير، كما يغوص الكتاب في أعماق قلب أنشطة إسرائيل الأكثر سرية. ويتتبع بيرجمان الأحداث الجسيمة والأسئلة الأخلاقية الشائكة الكامنة وراء حملات إسرائيل للقتل المستهدف، والتي شكلت كيان الدولة وغيرت ملامح الشرق الأوسط والعالم بأسره.
وفي السنوات الأخيرة، اغتالت إسرائيل أشخاصًا أكثر من أي دولة أخرى في العالم الغربي. ويكتب المؤلف في الكتاب: "لقد فضحت الأخطاء الفادحة من حين لآخر سمعة الموساد العدوانية والقاسية".
وتعود هذه الحكايات إلى الأيام الأولى للمشروع الصهيوني في فلسطين عندما اغتيل رجال شرطة بريطانيون ونازيون في أوروبا ما بعد الحرب. وفي وقت لاحق أيضا عندما وصل العلماء الألمان لبناء منظومة الصواريخ في مصر خلال حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ونفذت المخابرات الإسرائيلية عمليات مراقبة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ نشأتها، لكنها بدأت تتعامل معها بجدية بعد حرب عام 1967. ويرصد الكتاب بعض الرؤى حول "حرب الأشباح" التي دارت رحها خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي، والتي تضمنت مذبحة ميونيخ الأولمبية واغتيال وتصفية عدد من الفلسطينيين، منهم الكاتب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني. ويشير الكتاب إلى أنَّ الموساد سعى إلى "التجنيد الكاذب" للمتحدثين باللغة العربية والإسرائيليين من أصول عراقية أو مصرية، واعتبرها "أصول استخبارية" لا تقدر بثمن، حسب تعبيره.
ومع ذلك، فإنَّ القضاء على "الأعداء"، كما يعتقد المؤلف، تسبب في نتائج سلبية، حيث يرصد "ندم" القيادات الأمنية الإسرائيلية على اغتيال القائد العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية خليل الوزير (الملقب بأبو جهاد) في تونس عام 1988، في الوقت الذي كانت فيه المنظمة تتحرك عمليًا نحو الاعتراف بإسرائيل. كما ثارت شكوك حول اغتيال الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين، إذ عززت وفاته دور إيران في المنطقة. إضافة إلى أن وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 2004، أثناء الانتفاضة الثانية، فجرت العديد من الأسئلة المثيرة للاهتمام. ويرى بيرجمان أنه حتى لو كان يعرف إجابات تلك الأسئلة، فإن الرقيب العسكري لن يسمح له بالكتابة عنها. وكشف المؤلف في كتابه أن 6 علماء نوويين إيرانيين جرى اغتيالهم على أيدي جماعات معارضة إيرانية لكنها تعمل لصالح الموساد. ومع ذلك ينقل المؤلف عن تامير باردو الرئيس السابق لجهاز الموساد، انتقاده العلني لهوس بنيامين نتنياهو بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، بحجة أن القضية الفلسطينية التي لم تحل ما زالت تمثل التحدي الوجودي الحقيقي لإسرائيل.
ويميلُ أسلوب بيرجمان في هذا الكتاب إلى الإثارة، لكن هذا لا يخفي خيطًا حاسمًا يشكك في أخلاقيات وفعالية نهج إسرائيل في التعامل مع العدو في ساحتها الخلفية. ويخلص إلى أن نجاحاتها السرية كانت تكتيكية وليست استراتيجية "وكأن التاريخ قد توقف ولم تكن هناك حاجة للتعامل مع القضية الفلسطينية"، على حد قوله.