بايدن و"طائر السحر"!

 

 

خالد بن الصافي الحريبي

أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً *** منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا

وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى *** أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا

 

هي  أبيات لطيفة من قصيدة الربيع أو النيروز للشاعر البحتري (أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي - أحد أشهر الشعراء العرب في العصر العباسي)، وتعلَّمنا فيها على مقاعد الدراسة عُمق التأثر المتبادل بين الثقافتين الفارسية والعربية في ظل العصر الذهبي للحضارة الإسلامية والعصر العباسي.

وما أحوجنا في أيامنا هذه إلى ابتكار عصر ذهبي مُتجدِّد يطلق القدرات الاقتصادية والاجتماعية والإبداعية لنا وللأجيال القادمة، بناءً على الإيمان بأننا أولى من غَيرِنا بالتطلع إلى كلمة سواء تحسن التعارف بين مختلف الشعوب والقبائل، وتداوي جراح الماضي المفتوحة. وبينما باعد الزمن والسياسة بيننا وبين ثقافة جيراننا العريقة  في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، اقتربت منها ثقافة القوى العظمى. ولا أدلَّ على هذا القرب من أنه بداية منذ إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق الـ44 باراك أوباما يحتفي البيت الأبيض بعيد النيروز، وباللغة الفارسية؛ مما يعكسُ احترام القوى العظمى للشعوب التي تُحسِن إبراز نقاط قوتها الناعمة الثقافية. ونظرا لتأثير أول مائة يوم بين بداية حكم أي رئيس أمريكي من تنصيبه في فصل الشتاء ولغاية فصل الربيع داخليا وخارجيا خاصة في منطقتنا، خصوصا لكون إدارة الرئيس المنتخب الـ46 جو بايدن ونائبته كامالا هاريس تتطلع لفترة رئاسية واحدة نظرا لعمر الرئيس المنتخب (78 عاما)؛ فمن المفيد التخطيط للمستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة سيناريوهات محتملة؛ لأنها ستحدد ما إذا كنا سنعيش خلال الفترة المقبلة ربيعا طلقا ضاحكا أو شتاء باردا قارسا.

 

سيناريوهات المائة يوم الأولى في العلاقات بين أمريكا وإيران:

سيناريو العنقاء (أو السيمرغ باللغة الفارسية): وهو السيناريو الذى أخاله المفضل لدى النظام الإيراني. في هذا السيناريو ينجح فريق وزير الخارجية الأمريكي المعين أنتوني بلينكن (النائب السابق لوزير الخارجية ونائب لمستشار الأمن القومي الأسبق وأحد مهندسي الاتفاق النووي الإيراني)، في البناء على توق النظام الإيراني إلى الحصول على مكاسب تخفِّف وطأة ضيق الحال الاقتصادي على شرائح واسعة من المجتمع الإيراني، وتوق النظام إلى الحصول على الاعتراف ولو ضمنيا بها ضمن نادي الدول العظمى ذات الخلفية الآرية الأوروبية البيضاء في كسب ضمانات من النظام الإيراني على عدم المساس بالتفوق العسكري والسياسي والاقتصادي لإسرائيل في المنطقة. وقد يلعَب اللوبي الاقتصادي للأمريكيين من أصول إيرانية يهودية دورا مهما في هذا السيناريو؛ نظرا لتميُّزهم في عدة قطاعات حيوية؛ منها: التكنولوجيا، ولقربهم من مراكز صنع القرار في الكونجرس والبيت الأبيض. وإحياء الحضارة الفارسية حلم قومي كبير لأي نظام إيراني مرتبط بأسطورة طائر العنقاء العملاق الذي يشتعل لتتجدَّد فيه الروح. على سبيل المثل في العام 1971، وهو نفس العام الذي شهد انطلاق المسيرة السياسية للرئيس الأمريكي المنتخب -السيناتور آنذاك- جو بايدن، شهد العالم إحدى أكبر الحفلات في التاريخ -الذكرى الـ2500 للإمبراطورية الفارسية في برسيبلس العاصمة التاريخية للإمبراطورية الأخمينية قرب شيراز في إيران أثناء حكم شاهنشاه إيران محمد رضا بهلوي للاحتفاء بنظامه كوريث شرعي سيبعث الروح في الحضارة الفارسية، وكلف هذا الحفل الخزينة الإيرانية ما يُعادل اليوم حوالي 500 مليون دولار أمريكي. وكانت أمريكا وإيران تتمعان بعلاقة طيبة نسبيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، شهدت استعانة البرلمان الإيراني بوزيري خزانة ومالية أمريكيين، إلى أن سميت هذه العلاقات بـ"عملية آجاكس" للانقلاب على رئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق بعد تأميمه قطاع النفط في إيران، وإزاحته بتواطؤ بين الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والشاه محمد رضا بهلوي في عام 1953. وقد يكون سيناريو العنقاء هو الأقرب لتطلعات بايدن ليثبت تفوقه عبر تحقيق ما لم يحققه أسلافه من تقارب مع حضارة يحسب لها حساب مثل إيران، على غرار إنجاز رئيس سابق هو ريتشارد نكسون الذي يحسب له أنه أول رئيس أمريكي نجح في التقارب مع الصين.

سيناريو الاحتواء:

وهو السيناريو المفضل لدى إسرائيل وحلفائها من الدول الشقيقة والصديقة التي تتطلع إلى بقاء الوضع على ما هو عليه: مُواجهات في العلن حول العقوبات والبرنامج النووي واتفاقات في السر لتكريس التنازع الداخلي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مع جميع ما يشوب هذا التنازع من تجاوزات فئوية ظالمة يندى لها الجبين، وحالة لا حرب مع إسرائيل ولا سلم بين المسلمين، وإبقاء مقاطعة الدول العربية لبعضها البعض لتبقى في أضعف مكانة ممكنة منذ عصر ملوك الطوائف في إسبانيا، ولا غالب إلا الله. ومن غير المتوقع أن تقوض العقوبات فقط أي دولة نظرا لأن نظام "ولاية الفقيه" الحالي تعلم من القرون التي خلت. فمثلا تعلم من الإمبراطورية الأخمينية طموح التوسع السياسي والعسكري، ومن السلوقية تعلم قسوة الغزاة الذين يجلبون الخراب والدمار للحواضر، ومن الساسانية تعلم أن التنازع معناه الانهيار، ومن عصر الخلفاء تعلم رفض الطغيان، ومن المغولية  تعلم البطش، ومن الصفوية تعلم دور التعصب الفئوي في بناء القومية، ومما تعلمه من حكم السلالات الأفشارية والقاجارية والبهلوية نبذ الاستعمار، لا سيما الاستعمار الاقتصادي والبذخ، واعتناق مبدأ أن حرية الشعب يضمنها علماء الدولة الذين يفسرون تعالم الدين الحنيف.  ولكل ما تقدم صمد النظام في وجه العقوبات لكنها حرمته الأمان والازدهار. لذا؛ لا يزال سيناريو الاحتواء هذا هو الأرجح نظرا لغياب القادة الملهمين العادلين من الساحة وتقدم سن رأسي النظامين المعنيين، واقتصار فترة الرئيس المنتخب بايدن على فترة رئاسية واحدة.

سيناريو المواجهة:

وهو السيناريو المفضل لدى المتعصبين المتطرفين دينيا لدى كلا الطرفين.. وفي هذا السيناريو، تتسبَّب جرائم الاغتيالات، والشحن الإعلامي المتبادل، وحاجة الدول العظمى لمكاسب اقتصادية التي تستغل الموارد الطبيعية الرخيصة لدول المنطقة، وشهية دول منطقتنا للانخراط في سباقات تسلح مكلفة إلى تصعيد عسكري يؤدي للمواجهة في الخلية. وهذا السيناريو مستبعد لأن إيران قوة إقليمية وحضارية لا يستهان بها ولا يوجد أي قناعة لدى قيادات هيئة الأركان المشتركة الأمريكية أو قيادات الكونجرس من الحزبين أو الشعب الأمريكي بصورة عامة بجدوى الحرب مع إيران. ولو كان مقدرا لمثل هذا السيناريو أن يحصل لحصل العدوان خلال الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي الـ45 المنتهية رئاسته.

طائر السحر

لا يُمكن فهم روح الشعب الإيراني دون التعرُّف على ثقافته العريقة والمعاصرة، ومنها قصيدة بالفارسية عنوانها "مرغ سحر" أو "طائر السحر" أو "الصبح التراثية"، التي تقول بعض أبياتها فيما معناه: يا طائر السحر غرد عاليا// تحرر من هذا القفص وغرد أنغام الحرية للأرض وكل البشر// ظلم الظالم وجار الصياد// ورموا عشي أدراج الرياح// فيا الله أوح للفلك وللطبيعة أن يحيلا// عتمة الليل صباح// يا أيتها الوردة الجميلة توجهي للعاشق// ويا طائر السحر غرد عن آلام الهجران المباح.

يُعبِّر في هذه القصيدة الشاعر محمد تقي بهار الملقَّب بملك الشعراء قبل أكثر من قرن، وتغنى بها الفنان العظيم الأستاذ محمد رضا شجريان الذي توفي هذا العام 2020 رحمهما الله، عن توق الإنسان المستضعف، العاشق الإيراني، للتحرر من الظلم. وذلك أثناء رزح الإنسان في فارس تحت نير آثار ما يسميه المؤرخون بـ"اللعبة العظيمة" (The Great Game)، والاحتلال المزدوج جنوبا من قبل الامبراطورية البريطانية وشمالا من قبل الإمبراطورية الروسية، تحت ذريعة سداد ديون فارس أثناء حكم السلالة القاجارية (تمَّ تغيير الاسم الرسمي أثناء حكم السلالة البهلوية من فارس لإيران في العام 1935). وعلى الرغم من أن هذه القصيدة التي اختصرت أبياتها تطلعات ومعاناة الإنسان البسيط أثناء الثورة الدستورية التي نجحت في تحويل فارس لملكية دستورية عام 1906، فقد ردت عليها قوى الاحتلال بتدمير البرلمان على رؤوس نوابه وإذاقة الناس أصنافا من العذاب والسيطرة على كل آبار النفط والدخل منه وقتل الآلاف وتعطيل الدستور؛ مما يفسر لنا اليوم موقف النظام الحالي كالمدافع المستميت عن القومية الإيرانية ضد من يعتبرها قوى الاستكبار.

ولأنَّ لنا في القرون التي خلت عِبَرًا، فإنَّه حريٌّ بنا جميعا كمؤمنين بفطرة الإنسان الخيرة أن لا نكون أسرى لخلافات الماضي الضيقة التي حرمت الإنسانية إبداعات حضارات عظيمة، وأن نسعى مع الخيرين من كل الأطراف بكل قوة وثبات إلى أن نحيل عتمة هذه الأزمات الاقتصادية والسياسية العالمية إلى سحر وصبح يشرق بالأمان والرزق الوفير واحترام كل ما في الطبيعة.