عبيدلي العبيدلي
3- برامج شعبية، وخطط سياسية مغرقة في طموحاتها، تلهث وراء أهداف ذات سقوف عالية، لا تتناسب وموازين القوى القائمة بين من يدعو لإنجاح تلك الخطط وبين من يقف ضدها. والحديث هنا ليس بصدد الحكم على جدوى تلك الخطط، بقدر ما هو الإشارة إلى ميلان كفة من يقف ضدها مقارنة من يعمل لتحقيقها. محصلة ذلك تمطي زمن العمل من أجل تحقيق أهداف تلك البرامج دونما فائدة. وتتراجع المطالبات إلى مستوى المناشدات التي تتراجع هي الأخرى رويدا رويدا كي تكتسب صيغة الاستجداءات. تزرع هذه الحالة نزعة من الشكوك التي تنمو رويدا رويدا مع مرور الزمن، دونما تحقيق ما كان مطلوبا إلى حالة من الإحباط القابل للنمو عموديا في نفس كل مواطن، والانتشار أفقيا في صفوف الجهة التي تقف وراء تلك البرامج.
4- وصول مكونات العمل السياسي بمختلف ألوانها واختلاف مسؤولياتها في دوائر صنع القرار إلى درجة عالية من عدم التفاهم، أو حتى مجرد الوصول لقرار مشترك ينظم العلاقات بين تلك المكونات، بغض النظر عن موقع أي منها في ألوان طيف تلك العلاقات. عدم التفاهم هذا يؤسس لسلوك يقترب من عدم المبالاة ينجم عنه موجة اجتياح عارمة سمتها الأساسية الإحباط السياسي. وتتوالد هذه الموجة بسرعة، وتكتسب قدرة نمو داخلية لا متناهية تساعد على تفشي حالة الإحباط التي نتحدث عنها في اتجاهين الأول منهما عمودي يشل منظمات العمل السياسي بمختلف تلاوينها، والآخر أفقي تصيب سهامه المواطن العادي. تتراكم كل تلك الأسباب والنتائج كي تنسج شبكة من العلاقات المجتمعية المحبطة (بفتح الطاء) تتناسل بشكل غير متوقع، وبسرعة غير محسوبة، فيدخل المجتمع برمته فيما يشبه الغيبوبة السياسية الناجمة عن ذلك الإحباط القابلة للتوالد والانتشار والنمو.
تقود هذه الأسباب وأخرى غيرها نحو حالة الإحباط السياسي التي يسعى المقال للتحذير منها، ومن ثم بذل الجهود للحيلولة دون استمرار بقاء المجتمع العربي ضحية لها، وأسيرا لتداعياتها.
وتحمل هذه السلوكيات في أحشائها أجنة الأخطار التي نحاول التحذير منها، والتي من أبرز مشاهداتها الحالات التالية:
أ- الاستعانة بقوى خارجية، وهذا السلوك الناجم عن حالة الإحباط من أشدها خطورة على المجتمع العربي والمستقبل الذي ينتظره. ذلك أنه في المراحل المبكرة التي تتشكل بين الطرف المحلي العربي وذلك الأجنبي تبدو المصالح وكأنها متطابقة، ويتوهم الطرف المحلي أن نوايا الطرف الأجنبي صادقة، وأن الأهداف، على الأقل في مراحلها القصيرة متوافقة. وفي هذه المرحلة المبكرة من التعاون المشترك، لا يستطيع الطرف المحلي، بفعل حالة الإحباط إلا أن يكشف جميع أوراقه أمام من توهم أنه حليفه الإستراتيجي. وبالمقابل، يحرص ذلك الأجنبي على أن يغلف أهدافه الإستراتيجية البعيدة؛ بما يُوهِم الطرف المحلي بأن أوراق الطرفين، ومن ثم أهدافهما في سلة واحدة. يفقد الطرف المحلي رويدا رويدا أبوابه أمام الطرف الأجنبي الذي يتحيَّن الفرص المناسبة كي ينقض على "حليفه المحلي" ويسلبه ما يريد أن يسلبه، كي يضمن سيطرته على مقدرات البلد. والتاريخ العربي الحديث والمعاصر مليء بمثل هذه الأمثلة، وليست اتفاقية سايس بيكو سوى أسطع الأمثلة على نتائج مصل العلاقة التي نتحدث عنها.
ب- انتعاش النزعات، وتجر معها القيادات، ذات النزعات الانتهازية المنطلقة من مصالح ذاتية ضيقة الأفق مقارنة بتلك المصالح الوطنية ذات الآفاق الواسعة. إذ تجد تلك العناصر الانتهازية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تمتلك مكونات الشخصية القيادية، في حالة الإحباط التي أشرنا إلى أبرز معالمها التربة الخصبة التي تمكنها من تقدم الصفوف، ونيل قبول البرامج السياسية التي تروج لها، واكتساب الشعبية التي تبحث عنها، كي تحقق تلك المصالح الضيقة على تلك الوطنية. وهي في سبيل الوصول إلى مبتغاها، لا تتردد في دغدغة عواطف المواطن التي تقود لإذكاء النزعات الطائفية، ولا تحتار في الاستعانة بالأدوات الدينية بعد تزييفها وإفراغها من محتواها الحقيقي الأصيل، ولا تتوانَى عن رفع سقف المطالب الوطنية التي تدرك هي أكثر من سواها أن الظروف غير مناسبة لتبنيها. كل ذلك من أجل جر الشارع السياسي نحو طرق مسدودة ترغمه على الاستنجاد بتلك القيادات الانتهازية، التي تجد حينها أن الظروف ناضجة كي تنشر فيروسات الأوبئة المحبطة، التي تجد، حينها، الفرصة الملائمة التي تبيح لها الفتك بجسم العمل السياسي، وإدخاله في غيبوبة الإحباط التي قادته بوعي وإدراك مسبق نحوها، كي يتسنى لها عقد الصفقات التي تحقق لها المصالح الذاتية الضيقة على حساب الأهداف الوطنية التي توهم مَنْ انساقَ وراء هذه القيادات بأنها تقوده نحوها.
ج- زرع ذهنية اليأس من جدوى العمل السياسي في نفوس الشباب العربي، وغرس الإحباط في سلوكهم. هذا يكتب الفشل على تاريخ مستقبل العمل السياسي العربي ويحول الأمة العربية إلى جيش من المنصرفين عن خوض أي شكل من أشكال العمل السياسي. يقود ذلك إلى إفراغ الساحة السياسية العربية من أي قادم يحمل مؤهلات القيادة السياسية، ويجعلها لقمة سائغة في أيدي الفاشلين. هنا يدخل العمل السياسي في نفق مظلم نهاياته تنذر بأكثر من جدار أصم يصطدم به قطار مستقبل الحركة السياسية العربية. الأخطر من ذلك أن ينتكس سلوك قائد ذلك القطار، وبدلا من أن يخطط لعمل سياسي حاضر يبني أسس المستقبل، يعود نحو الماضي الغابر يجتر من خلال بعض المراحل المضيئة فيئه، ويستخدمها كانتصارات مخدرة يغيب بواسطتها، وبدون وعي، احتمالات نهوض سياسي عربي. وأخطر مستقبل يتربص بأي أمة هو انحرافها عن جادة العمل السياسي المعاصر بآفاقه المستقبلية الزاهرة، نحو أزقة اجترار انتصارات تاريخية عفا عليها الزمان، والاستمتاع باجترارها، كي تتحول إلى ما يشبه المهدئات التي تهاجم الأعراض ولا تعالج الأسباب. وتقبل الأمة العربية أن تكون مرآة تاريخية عاكسة لما هو قديم، بدلا من أن تكون منظارا مستقبليا يبني على الحاضر ويخطط للمستقبل.