عبيدلي العبيدلي
يتماثل المجتمع وجسم الإنسان في سلوكهما أزاء حالة معينة وفي فترة معينة. وفي ذلك الكثير من المنطق، فكما يتشكل جسم الإنسان من مجموعة من الخلايا التي تربط بينها شبكة نسجتها مجموعة من الظروف المعقدة التي أحاطت بها. ورسمت تلك الشبكة طرق سلوك التي تؤدي عبرها تلك الخلايا وظائفها. كذلك المجتمعات البشرية، نجدها هي الأخرى تسلك الطريق ذاته لكن عبر سبل معينة التي مهما اختلفت مشاربها، تظل محافظة على معابرها. ويعود السبب في ذلك التشابه، كون المجتمعات البشرية، مثل الأجسام الإنسانية، هي في جوهرها، مجموعة متعايشة في بيئة، أو مجتمع معين، تنسج تلك البيئة أو ذلك المجتمع سلوك من يقطنها من البشر، تماما كما تحدد الأولى ما تحتضنه من خلايا حية.
وكما يعبر سلوك الجسد الإنساني عن التفاعل البيولوجي أو النفساني الذي يمارسه عن محصلة ردود فعل خلاياه، كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات البشرية. تأتي ردود أفعالها كنتيجة طبيعية ومنطقية لتفاعل أفرادها مع الظروف المحيطة بهم، وتأتي أشكال ردود الفعل تلك واتجاهاتها كمحصلة لتك النتائج.
وفي كل مرحلة من مراحل تطور شعب معين، ومن بين هذه الشعوب، الشعب العربي، نجد من يختزل الحالة السياسية السائدة بوصفها أنها مرحلة "احباط سياسي"، في محاولة منه لتشخيص الحالة القائمة، او توصيف معالمها.
وقبل تناول مظاهر ذلك الإحباط الذي أشرنا له، والاخطار التي يجلبها معه، ينبغي التوقف عند معنى كلمة الإحباط في معاجم اللغة العربية. فكلمة الإحباط مأخوذة في اللغة من «ح. ب. ط» ولها في اللغة معانٍ متعددة، ومن معانيها التي اشتقت منها: "(الحبوط)، والحبوط هو: الجمل أو الناقة التي تأكل نبتة سامة فينتج عن أكلها أن ينتفخ بطنها، فيظن الرائي للجمل أو الناقة أن الانتفاخ لحمًا نما في الجمل، والجمل السمين قيمته أعلى من قيمة الجمل النحيف، فيظن صاحب الجمل أن هذا الجمل سيجلب له عائدًا أكبر؛ فإذ بهذا الانتفاخ هواء سام نتج من النبتة السامة التي أكلها، فما هي إلا أيام ويموت الجمل الذي كانوا يعقدون عليه آمالًا كبيرة في أنه سيجلب لهم نفعًا كبيرًا، فينتج عن هذه الحالة إحباط عند صاحب الجمل، فسمي الجمل الذي هذه حالته بــ (الحبوط)."
وفي كتاب "ملحق موسوعة السياسة" التي أسسها المرحوم الدكتور عبد الوهاب الكيالي، وألفها الباحث خليل أحمد خليل نجد تعريف احباط سياسي بأنه "شعور نفسي -اجتماعي بالفشل السياسي، مورده الأول نجده في ظاهرة الإنسلاب أو الارتهان... وهو عرقلة مسيرات الجماعة أو الأفراد إلى أهدافهم المعلنة أو المنشودة بطريقة واعية او لا واعية. وهو يعني الانكسار الذاتي ...".
وقد وردت كلمة الإحباط في القران الكريم في قوله تعالى (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ). وهو أيضا ذلك "الشعور بالحزن واليأس والعجز نتيجة للفشل في تحقيق هدفٍ كان يُرجى تحقيقه."
تأسيسا على ذلك نجد سريان الإحباط في جسد مكونات سلوك أفراد مجتمع معين، تعاني أو تنعم، بما تفرزه الظروف السائدة بذلك المجتمع في مرحلة من مراحل تطوره. وفي فترة زمنية محدودة يخضع أفراد ذلك المجتمع للأوضاع التي تسير آليات العلاقات التي تسوده في تلك الفترة.
تأسيسا على ذلك لا ينبغي الاستغراب عندما نشهد موجة إحباط سياسي تجتاح مكونات مجتمع معين، تماما كما تلم حالة إحباط سلوكي بأحد أفراد ذلك المجتمع.
ولربما يلمس المتابع لحالة المجتمعات العربية اليوم يلمس، دون الحاجة لبل عناء شديد حالة الإحباط السياسي الذي يجتاحها والذي يتمظهر في مجموعة من السلوكيات التي تسيطر على فكر، وسلوكيات كوادر هذه المجتمعات وقياداتها السياسية.
ولا تجتاح حالة الإحباط التي نتحدث عنها أمة معينة لأسباب عبثية أو غير منطقية. فهي في نهاية الأمر حالة مستعصية ولدتها ظروف معينة، وتقف وراءها قوى معينة تخدم حالة الإحباط تلك مصالحها المباشرة وغير المباشرة، الآنية منها والمستقبلية. ويمكن حصر أهم تلك الأسباب في النقاط التالية:
- سياسات مجحفة تمارسها سلطات أجنبية غازية، من المنطقي أن تكون هناك دوما متعارضات، قد ترقى كي تصل إلى مستوى التناقضات، بين القوى الأجنبية الغازية وشعب البلاد التي تعاني من ذلك الغزو. فمهما بلغت مساعي ذلك العدو لتجميل صورته، وتحسين سمعة سياساته، لكنه مرغم، بحكم مصالحه، أن يلجأ إلى سياسات مآلها إرغامه على الكشف عن وجهه القبيح، واللجوء إلى سياسات القمع التي من شأنها مصادرة حق ذلك الشعب الذي يعاني من الغزو ومن يقف وراءه في الدفاع عن مصالحة، ومواصلة المطالبة بحقوقه التي سلبها ذلك الغازي. وهناك حالات عربية كثيرة عرفها التاريخ العربي الحديث والمعاصر، الذي زرعت سياسات العدو بذور الإحباط في نفوس المواطن العربي، عندما طال أمد تلك السياسات، وأمعنت القوى الأجنبية التي تقف وراءها في غيها. ولم تنجح نضالات الشعوب العربية في نيل تلك المطالب، أو الدفاع عن تلك الحقوق، وهي جميعها مشروعة.
- تمزق مجتمعي مصدره تفشي أفات فئوية سياسية وعناصر عرقية، سوية مع عوامل طائفية تمزق النسيج الاجتماعي لشعب معين، وتزرع أوراما خبيثة في جسده، تشل ذلك جسد ذلك المجتمع، وتعيق حركة مكونات النشطة، وتحول دون مشاركتها في أي مشروع نهضوي من شأنه انتشال ذلك الشعب من معاناته التي تشتت جهوده. ولا تكف تلك المصادر عن سقي تلك العوامل الهدامة لضمان نموها وانتشارها. ولا تتوقف أنشطتها عن تغذية كل ما من شأنه إنعاش هذه الحالة السلبية، وتشجيع أصحابها، الذين يفقدون نفوذهم السياسي في حال غيابها، وتضعف مواقعهم الاجتماعية في مراحل تراخيها. استمرار حالة التشرذم هذه، والتي غالبا ما تكون مصحوبة بظروف تساعدها على النمو والانتشار تزرع بذور الإحباط التي تنعشها تلك الظروف، وتساعدها على مواصلة السير في دروبها كي توسع من نطاق حالة الإحباط تلك، وتعمل على عدم ضمورها، دع عنك غيابها. مثل هذه العناصر الداخلية تتكامل مشروعاتها المثيرة لعناصر الإحباط مع مشروعات تلك القوى الخارجية الغازية، وتتناغم مع برامجها.