مشاعر خارج الميزان!!

عبدالله الفارسي

"الأرواح جنود مجندة ما تآلف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف"

أخبرني أكثر من شخص عن هذه القضية النفسية المشاعرية الملتبسة، وأعتقد بأننا كلنا نعانيها، كل منا له مشاعر ملتبسة وأحاسيس مختلطة.

قلوبنا صناديق مقفلة وأرواحنا مناديس مؤصدة، كلٌ منا له انتصاراته البارزة في مضمار المشاعر وهزائمه الساحقة في ساحات العواطف.

يقول أحدهم مفضفضا لي: إنني أعزّ شخصا ما، معزة كبيرة، وأكن له حبا عميقا، وأضمر له احتراما عظيما، وقد بنيتُ له قصرا في الصدر وألبسته تاجا في الروح. لكنه لا يبادلني نفس المشاعر؛ بل لا يبادلني حتى نصف تلك المشاعر ولا حتى ربعها، ويكمل بحشرجة وألم: لغريبة أنني حاولت جاهدا أن أنفض قلبي من هذا الحب، وحاولت غسله، وحاولت تجفيفه، لكن لم أستطع إلى ذلك سبيلا! هو حبٌ عالقٌ في صدري، مغروسٌ في روحي، لا يرضى أن يتحرك أو يتزحزح.. انتهى كلام الرجل.

لا أظن أن هناك من لم يعش ويعيش مثل هذه التجربة المشاعرية المتوترة المتأرجحة، فقضية المشاعر قضية معقدة جدا؛ بل هي من أعقد قضايا الإنسان، عجز أعتى أطباء الطب النفسي والعصبي عن تحليلها وتفسيرها. علماء السيكولوجي حللوا وفسروا أغلب سلوك الحيوانات، لكنهم عجزوا عن تفسير الكثير من تصرفات الإنسان.

القلوب البشرية قلوبٌ غريبة عجيبة لا تخضع لقانون ولا ترتبط بمبدأ ولا تلتزم بنظرية. هناك أناس حولنا نُكنُ لهم الحب البالغ والتقدير المفرط ولا يُكنّون لنا ولو جزءا يسيرا من مقدار ما نُكنه لهم من القيمة والحب والمعزة؛ بل أحيانا يعاملوننا بقسوة كبيرة وبطريقة حادة لا يمكن استيعابها أو فهمها.

وهذا ما يسمى بعبث القلوب وسخف المشاعر وتهلهل الأحاسيس، الأحاسيس المهلهلة سهام مؤلمة!

والغريب أن هناك من لا نحبهم ولا نلتفت لهم ونحن نعلم مقدار حبهم لنا وحجم عطفهم وتعاطفهم معنا.

لماذا هذه الازدواجية في ميزان المشاعر؟ لماذا هذا التخبط في لغة القلوب؟ لماذا هذه الفوضى والترنحات في منهج الأفئدة؟

ليس هناك إجابة منطقية على هذه التساؤلات.. الإجابة صعبة جدا، إن لم تكن مستحيلة.

القلوب ملكُ الرحمن؛ هي بين أصابعه يقلبها كيف يشاء ومتى يشاء.

أنا وأنت وهو وهي وهم ونحن لا نستطيع أن نحب من نشاء ونكره من نشاء، كما إننا ليس بأيدينا أن خُلقنا تعساء. هناك أمر سماوي بالحب، هناك تكليف رباني بالكراهية، هناك ضغط إلهي على القلب، هناك فرض إجباري على المشاعر خارج إرادتنا البشرية.

أخبرني صديق يقول: تزوجت من زوجة جميلة جدا، طيبة جدا، مطيعة، مهذبة، رائعة، كاملة في كل شيء تحبني حبًا جمًا، وبعد 8 سنوات من زواجنا، وبعد ثمار الحب، و4 من الأبناء الرائعين، تعلقتُ بفتاة كانت زميلتي في العمل، فتاة عادية جدًا، اصطدمت بها ذات فجأة؛ فتاة لا تملك جمال زوجتي، ولا رشاقة جسدها، ولا روعة قلبها، ولا دماثة خلقها، ولا نقاء روحها. اصطدمتُ بها ذات فجأة، وأحببتها ذات فجأة!

تعلقتُ بها وانجررت خلفها ولهثتُ وراءها كتيسٍ أحمقٍ وتزوجتها!! ففقدتُ زوجتي الأولى وكسرتُ قلبها الجميل العظيم الرقيق.

ما زلتُ حتى اللحظة أحب هذه المرأة التى دخلت حياتي بغتة ومتعلقٌ بها، رغم أنها لا تبادلني نفس المشاعر الجياشة التي انْكَوِي بها ليل نهار.

وما زالتْ زوجتي الأولى وشريكة قلبي القديمة تحبني ويلهج فؤداها باسمي، رغم بُعدها عني وبعدي عنها.. وما زلتُ حتى اللحظة لا أفهمُ لم سلكتُ هذا السلوك المتدهور المتهور!!

كم هي سخيفة هذه القلوب؟! كم هي حمقاء تلك المشاعر؟!

أعتقد أن هذه المشاعر التي نصطدمُ بها في طرقات الحياة؛ أقدارٌ مزروعة في طريقنا، ولا مناص من الاصطدام بها والارتطام بجدرانها والارتجاج بخرساناتها. إنها ميكانيزما الحياة المريرة العذبة التي تمنح حياتنا طعمها الحارق ونكهتها اللاسعة.

ليس هناك شيء يحدث في هذا الكون الهائل دون كتاب سماوي، مكتوب منذ الأزل. إن ما أصابك لم يكن ليصيبك، إن ما أصابك من الحب والكراهيات والاحترام والعدوات؛ كلها نزلت في سلة مغلفة من السماء مسجلة باسمك ولن يتسلمها أحدٌ غيرك.

كلٌ منا يتسلم سلته السماوية المغلقة ويفتحها بنفسه ويعيش ما قدرته السماء له، يذُق حلاوتها، ويتجرع مراراتها كاملة غير منقوصة، يشربها ملعقة ملعقة، ويرشفها جرعة جرعة حتى الرشفة الأخيرة.

إن المشاعر البشرية التي نصطدمُ بها خلال عمرنا القصير هي أرزاق محددة مكتوبة لنا، إنها تدخل ضمن بندِ الرزق وقائمة النصيب.

إن الزوجة والمال والأبناء والصحة والمرض والأحبة والأصدقاء، إضافة إلى مشاعر الحب والكراهية؛ كلها مكاتيب سماوية، كُتبتْ على "جباهنا" منذ الشهر الرابع من أعمارنا ونحن عوالق في أرحام أمهاتنا.

وكما يقولون في الخليج: اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.

من منا لم يزرع شجرة ضخمة ظليلة في روحه مانحا أغصانها وأوراقها للأحبة؟ من منا من لم تعصف الريح بأوراق روحه وتبعثر العاصفة أزهار فؤاده؟!

كلنا نملك مشاعرَ خارج الميزان، خارج المنطق، خارج المعقول!

فارضوا بنصيبكم من الحب والمودات، واحتملوا قسطكم من البغض والعداوات والكراهيات وكل شيء سينتهي.

هذا الوقت القصير وإن طال حتما سيمضي وينتهي، ونحن ومشاعرنا سنختفي عاجلا أم آجلا، ونصبح أثرا بعد عين، ولن يبقى منا سوى أريج ذكرياتنا الجميلة وعبق بصامتنا النقية الرائعة.

بوركتم،،،