لقاء بعد 30 عامًا

 

صالح البلوشي

الحياة مليئة بالمواقف الدرامية والمشاعر الإنسانية والحكايات النَّادرة بعض منها يتكرر مرة واحدة في العمر عن طريق الصدفة وبدون أي ترتيبات سابقة.

في حياتنا توجد الصدف السعيدة التي تأتينا من غير ميعاد لتسعد قلوبنا وتُعيدنا للذكريات الجميلة، مثل أن تلتقي بصديق قديم فرقت بينكما الظروف الشخصية أو العملية أو الانشغالات اليومية، أو أن تلتقي معلماً لم يجمعكما لقاء منذ أنهيت المرحلة الدراسية، أو أن تلتقي صدفة بشخص ثم تكتشف أنَّه صديقك الذي لم تره منذ سنوات طويلة.

في الأسبوع الماضي كنت في زيارة لمدرسة عبد الرحمن بن عوف الخاصة في ولاية صور، وأثناء جلوسي في أحد المكاتب الإدارية لفت نظري وجود اسم لمُعلم قديم على أحد المكاتب، فقلت في نفسي لعله تشابه أسماء فقط، ولا يُعقل أن يكون هذا المعلم ما زال مستمراً في نفس العمل ونفس الولاية منذ أكثر من 30  عاماً.

انتظرت دخوله المكتب لأتأكد إن كان هو نفس المعلم الذي كان يُعلمني أم شخص آخر تشابه اسمه مع اسم مُعلمي، وخلال عشر دقائق دخل هذا الشخص وكان يلبس كمامة للوقاية من فيروس كورونا ولذلك كان من الصعب التَّعرف على ملامحه، ووجدت حرجاً أن أتحدث معه إن كان نفس الشخص أم لا.

دارت الأسئلة في رأسي وزاد شعوري بالإحراج، ماذا لو كان الموضوع مجرد تشابه في الأسماء؟! انتظرت قليلاً وبعد عدة دقائق التقيت به مجددًا في ممر المدرسة ولكنه في ذلك الوقت لم يكن يرتدي الكمامة، وكانت المُفاجأة أنه هو، تعرفت عليه بسهولة من خلال ابتسامته التي لم تكن تفارقه منذ أن كان معلمًا لي، ورغم التقدم في السن إلا أنَّ ابتسامته لم تتغير وكذلك طريقته في الكلام التي تتسم بالهدوء والاحترام وكأنه يعرفك منذ سنوات طويلة.

لم أجد صعوبة في التعرف عليه رغم أنَّه لم يتعرف علي بسهولة لأنه لم يدرّسنا سوى سنة واحدة في المرحلة الإعدادية، ورغم ذلك فقد استطاع في تلك السنة أن يدخل في قلوب جميع الطلاب حب العلم والتعلم، بسبب أخلاقه العالية وإخلاصه في عمله ومحبته للجميع وكذلك الطريقة السهلة التي كان يوصل بها المعلومة.

لقد كانت حصة التاريخ التي كان يدرسها من أجمل الحصص في تلك السنة الدراسية، ولذلك فلا عجب أنني حصلت فيها أعلى درجة وأحببت المادة حتى أني حرصت في السنوات التالية أن أقتني بعضاً من أمهات كتب التاريخ من أجل التعمق أكثر في تفاصيل التاريخ الإسلامي.

لقد كان اللقاء مع الأستاذ أحمد أبوبكر ذا طعم مختلف عن اللقاءات الأخرى اليومية، وأحسست بأنَّ الزمن عاد بي إلى الوراء، إلى نهايات ثمانينات القرن الماضي، عندما كنَّا نحصل على المعلومة بشق الأنفس عن طريق البحث في المكتبات المختلفة والتعمق في بطون الكتب والمجلات، بخلاف اليوم أصبح كل شيء متاحاً بضغطة زر ليأتيك سيل من المعلومات في ثوانٍ معدودة.

إنِّه لقاء مع معلم تعلمت منه الكثير، واسترجعت فيه الذكريات الجميلة في المرحلة الإعدادية وذكرته كيف كنَّا نتعمد أحياناً أن نسأله أسئلة صعبة في التاريخ والسياسة لنعرف قدرته في الرد عليها ومع ذلك كان يتعامل معنا بكل هدوء، حتى اكتشف أمرنا ذات مرة وقال لنا "إنكم تبحثون عن معلومة هنا ومعلومة هناك في المساء ثم تسألوني في الصباح حتى تتعمدوا إحراجي أمام بقية التلاميذ"، وأعطانا درساً بليغاً بأن التلميذ يجب أن يسأل المعلم عن الأسئلة التي لا يعرفها وليس التي يعرفها مسبقًا، ولم نعد لذلك مرة أخرى.

لقد كان لقاءً سريعاً جداً بسبب انشغال معلمي بأمور المدرسة وخاصة في هذه السنة الاستثنائية ولذلك تبادلنا أرقامنا الهاتفية من أجل لقاءات أخرى أجمل للحديث عن ذكريات الماضي وآمال الحاضر وطموحات المستقبل.