يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"تزداد أهمية موضوع هذه الدراسة إذا وضعنا في الاعتبار أنَّ التاريخ الاجتماعي يُشكل خطاباً معرفياً جديداً يُقدِّم فهما آخر للتاريخ، ويفتح أبوابا كانت مُوصدة أمام المؤرخين، ويسعى لسبر غور مواضيع دقيقة ومغيبة، يؤدي استحضارها إلى تخصيب الدراسات التاريخية، وإزالة الغشاوة عن العديد من القضايا الاجتماعية التي يلفها الالتباس والتعتيم" د. إبراهيم القادري بوتشيش.
في مقالات سابقة كتبت عن علاقة التاريخ بالفلسفة بعلم الاجتماع/ العلوم السياسية، ولكن لم أتحدث عن علاقة التاريخ بالفتاوى الشرعية أو الدينية، وهل هناك قاسم مشترك بين التاريخ والفتوى الدينية؟ بمعنى آخر: هل يمكن الاستعانة بفتاوى من أجل تأريخ زمن مُعين أو حقبة تاريخية محددة؟
تساؤلات عديدة، قبل ذلك وعند سبر أغوار ماهية العلاقة بين التاريخ أو التأريخ لزمن مُعين وعلاقته بفتاوى دينية، علينا التوقف برهة عند محاولة فهم أبجديات المرحلة وتشعباتها، لذا فما هو معروف أن التدوين التاريخي في عصور مضت كان أشبه بالنادر، لذلك وكما ذكرت في أكثر من مقال ذي صلة بأنَّ الاعتماد المطروح لفهم حقبة تاريخية معينة هو استخدام خاصية التحليل التاريخي، لبحث وتفكيك وتتبع أي حدث، حتى يتم الوصول لنتيجة مُناسبة على اعتبار استحالة الوصول لنتيجة قاطعة (أقصد الأحداث التي لم يتم تأريخها وتوثيقها بشكل مُعتمد).
وصلني عن طريق منصة زاد المعارف كتاب: المجتمع العُماني في القرنين (4-5هـ/ 10-11م) من خلال بعض مسائل بيان الشرع، لمحمد بن إبراهيم الكندي (ت: 508هـ/ 1115م)، للمؤلف: د. أحلام بنت حمود الجهورية (1)، ويحمل بين دفتيه عرضاً لكثير من الفتاوى في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وقسم الكتاب بحسب نوعية الفتاوى الاجتماعية، حيث لاحظت تركيز الفتاوى على فئة المزارعين وهي الفئة الاجتماعية الأكثر، ولاشك كان المفتي أو شيخ الدين هو الشخصية الأكثر تأثيرًا بالمجتمع في تلك العصور، ليس على صعيد الدين الإسلامي ومذاهبه المختلفة فقط بل وقتذاك ينطبق الوضع وتأثير رجال الدين واتساع نفوذهم الكثير من الديانات والمعتقدات، ذلك لأنه لا يوجد في الساحة آنذاك شخصية موثوقة غير رجل الدين أو الشيخ، وبالطبع غالباً يكون هو إمام المسجد القريب، أو إمام مسجد يجتهد في العلم وله صولة وجولة بالتعامل مع تساؤلات واستفسارات الناس.
مقدمة الكتاب كتبها بمهنية وإبداع د. إبراهيم القادري بوتشيش، كان فارهاً لغوياً، وظهر فيه الاعتناء بالألفاظ والمُفردات غير المستخدمة دائماً، حيث أضافت وأعطته وجاهة، تميزت المُقدمة بفرش كتابة مطرزة بالألفاظ العتيقة، والمفردات المفقودة من كتب ومطبوعات اليوم، واستضاف القارئ بوجبة كريمة من علو السبك في العبارات، وترتيب الجمل بشكل وكأنه يرسم لوحة كلمات تؤدي إلى المعنى بريشة جعلت خلفيتها مفردات وألفاظ تلفت النظر لجديتها وتناسقها مع المعنى، حتى يخيل للقارئ أنَّه يقرأ مقالا أدبياً وضع به الكاتب الكلمات بدقة ونباهه وإتقان، مقدمة أي كتاب هي أشبه بالباب الرئيسي للبيت، هي الانطباع الأول الذي يطغى على بقية الانطباعات، وكان التقديم موفقاً واختيار الدكتور بوتشيش في محله، ومما نبهت إليه المؤلفة في الكتاب: "تبرز أهمية الدراسات البينية بين العلوم المختلفة في واقع البحث العلمي المعاصر، من هنا تأتي المصادر الفقهية كأحد الأدوات التي يستطيع الباحث توظيفها في الكتابة التاريخية".
الكتاب يؤرخ لفترة تاريخية وشكلها الاجتماعي وليس السياسي، ففي الكتاب لن تجد آراء أو وجهات نظر أو حتى حديث عابر عن الأحداث السياسية، هنا تكمن أهمية الكتاب كونه ركَّز على التخصص المطلوب بحثه، وهو الحياة الاجتماعية وتأثير الفتاوى على الناس وهم جلهم البسطاء، وكان تركيز البحث حول تأريخ الفترة الزمنية من خلال فتوى أو رأي شرعي في أمر ما أو نزاع ما، خاصة الأحداث اليومية للمزارعين وبعض الخلافات حول الأفلاج، وبنفس الوقت البحث يشرح بسلاسة وبإشارات مختصرة لكنها واضحة حول الحياة اليومية وتشكيلات الدولة والجند والقضاة والشراة (هؤلاء طلبة علم شرعي يتم الاستعانة بهم في مهمات أمنية، وهو نموذج قريب لهيئة الأمر بالمعروف بالمملكة العربية السعودية) وكذلك علاقة المرأة بتلك الفتاوى؛ حيث أوردت الباحثة مجالاً كافيًا له.
أهمية الكتاب أنه يزدحم بمعلومات نادر تواجدها بكتاب واحد زائد أهمية الفترة التاريخية والتركيز على الحياة الاجتماعية وتأثير الفتاوى الشرعية على حياة الناس، لذلك أي باحث في التاريخ العُماني الحديث وما قبل الحديث لا غنى له عن هذا الكتاب القيم وسيكون مرجعاً مهماً له، لأنه يركز كما أسلفت على ما يتجاوزه كثير من المؤرخين الذين يركزون على التاريخ السياسي المُتاحة مراجعه ومصادره، بينما التاريخ الاجتماعي سيُرهق الباحث بالبحث عن المراجع والمصادر، دليل ذلك كثرة المراجع والمصادر في ببليوغرافيا الكتاب، مايدل على جدية الدراسة وأهمية البحث.
من يقرأ الكتاب سيجد أمامه رسالة علمية محكمة الجوانب، تمَّ الاهتمام بجميع الفصول الأبواب، حتى الوصول للخلاصة، وأتمنى عدم إغفال الرسائل العلمية المعتبرة كهذه الرسالة، وطباعة المميز منها حتى تكون متاحة للجميع ويتسنى لكل دارس أو مهتم الحصول عليها، وعدم الاتكال على التقنيات الإلكترونية الحديثة التي رغم أهميتها إلا أنه يبقى للكتاب أهميته القصوى.
******************
- الكتاب في الأساس رسالة دكتوراه في قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس (سلطنة عمان- مسقط) للباحثة د. أحلام بنت حمود الجهورية.