حمود بن سيف السلماني
محام ومستشار قانـونــي
نبدأ حديثنا اليوم بالمثل الشعبي الذي به من الدلالة العظيمة والكبيرة، والذي يقول: (العلم في الصغر كالنقش على الحجر، والعلم في الكبر كالغرف من البحر).
العلم مهم في كل مجتمع على هذه الأرض المباركة، وبدون التعليم لن يصل الإنسان إلى مكان معين، ويُلاحظ بأن الإنسان قديمًا كان يتعلم يوميًا من التجارب الحياتية حتى وصل إلى ما وصل إليه في هذا الزمن، بالإضافة إلى الابتكارات الجديدة والتي تُذهل العقول، حتى إن العلماء ذاتهم يعلمون بأنهم لم يصلوا إلى مرحلة بعيدة من العلم والتعلم، وإنهم يرغبون في التعلم أكثر، والقراءة وحدها لا تكفي للوصول إلى الحقيقة أو المعرفة، فلا بد أن ترافق القراءة تجارب علمية وعملية، وليس كل قراءة تحتاج إلى التجربة العملية، بل بعضها يستفيد الإنسان منها بمجرد معرفة التفاصيل وشرح ما يقرأه من معلومات ليزداد ثقافة ومعرفة.
من خلال ذلك، فإن الأمم لا تنهض إلا بتعليم أبنائها المعرفة، والوصول بهم إلى الابتكار وصنع القرارات المهمة، وحثهم على القراءة والتعلم، فنعطي مثالًا بسيطًا على ذلك، وهو دولة سنغافورة سابقًا وحاليًا، حيث كان الجهل والمعتقدات الضارة والمنحطة والقذارة في كل مكان، وكانت كفيلة بانعكاس مدى تدهور البلد في تلك الفترة، حيث إن الشخص بمجرد النزول في هذه الدولة، سرعان ما يُغادرها في أقرب رحلة له. فكانت السرقات والفوضى والمخلفات في كل مكان، حتى وصل الأمر إلى الانفلات الأمني في هذه الدولة، فكانت تُسمى بلد القوانين، وذلك بسبب سنّها قوانين صارمة للمحافظة على النظام، إلا أنها لم تتمكن من ذلك حتى وصول الرئيس لي كوان يو، حيث إنه كان محاميًا جيدًا وسياسيًا محنّكًا، وهو أول أمين عام وعضو مؤسس لحزب العمل الشعبي، وتولى الحكم في بلاده.
اعتمدت سياسته على الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج، وتطوير المستوى الإنساني والصناعي، حيث إنه كان يرى شيئًا واحدًا أمامه فقط وهو: "لا نهضة اقتصادية إلا في استثمار الفرد ذاته وتأهيله".
فوضعت مناهج علمية حديثة وركّزت على بناء المعلم، فهو القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة. فأين أصبحت؟ أصبحت الآن رابع أهم مركز مالي في العالم، وخامس أغنى دول العالم من حيث احتياطات العملة الصعبة، والآن من يشاهد دولة سنغافورة يعلم ما وصل إليه العلم في تطويرها، وجعلها في مقدمة الدول العظمى في جذب الاستثمار الأجنبي، بل تم وضع قوانين بعدم استجلاب عمال من خارج الدولة، بل يتم توظيف العمال من أفراد المجتمع.
بالتالي، وصلت الدولة إلى اقتصاد قوي بعدما كانت دولة فقيرة، يتم طردها من الانضمام إلى الدول الأخرى، حيث أصبحت الآن أنظف مدينة في العالم، جميلة المنظر، طيبة الهواء، فناطحات السحاب، والمباني ذات الأشكال الهندسية الحديثة والراقية، وشموخ النخيل، والأشجار، والحدائق الخضراء الجميلة، تجعل منها جنة في الأرض.
ويُلاحظ من خلال ما تم ذكره أعلاه بأن من تولّى الحكم ونقل الدولة من الفقر إلى الغنى، إنسان متعلم، ولديه المعرفة الكاملة في العلم والسياسة والقانون، فعرف ما يجب استثماره في الفرد، وهو العلم، حيث إنه قام بتطوير المناهج في بلاده، وتشجيع القراءة، بعدما كانت القراءة محرّمة ما قبل وصوله إلى منصة الحكم.
فالعلم هو سلاح الإنسان في هذا الزمن الحالي، فبقدر ما يتعلم الإنسان يصل إلى مبتغاه.
بالتالي، فالتعليم مهم جدًا لإخراج جيل ملم بالمعرفة، ويعرف ما له وما عليه، حتى يتمكن من المنافسة في العمل، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، فالمدرسة تُعلّم الفرد الأساسيات التي تُؤهله إلى الوصول إلى الجامعة، والجامعة تُعلّمه إلى المرحلة التي تؤهله إلى قيامه بمعرفة أدق التفاصيل، وبعدها يتحرر بنفسه إلى عالم المعرفة والقراءة من أجل الوصول إلى ما لا نهاية في القراءة والمعرفة، ويستفيد كل يوم من معلومة جديدة تفيده في المجتمع، ويستفيد منها غيره.
لهذا، فإن تحديث المناهج في المدارس، وإضافة المواد الجديدة كالقانون، والميكانيكا، والهندسة، وغيرها من المواد المهمة في السوق العملي، وجعلها مواد علمية وعملية، من أجل إضافة الخبرة لدى الطالب، وعندما يتخرج من المدرسة ولم يستطع الالتحاق بالجامعة، فإن لديه ما يؤهله في المنافسة في السوق، وبدء مشروعه الخاص، والعمل لحسابه، كالكهربائي، والميكانيكي، والبناء، كلٌ في المجال والتخصص الذي تعلمه ودرسه.
وخلال فترة ليست ببعيدة، سيكون صاحب المعرفة والعلم والخبرة هو المرغوب فيه كثيرًا، لأن الوقت الحالي يشهد انكفاء الأطفال على الأجهزة الإلكترونية بشكل كبير جدًا، بعيدًا عن العلم والقراءة، وكأن لسان حالهم يقول: "إننا نأكل ونشرب الآن ونترك المستقبل في وقته"، فمن ضيّع وقته الآن، سيُضيّع مستقبله بيده بلا شك.
من هذا المنطلق، نؤكد ضرورة تعليم الأطفال، والتركيز في استثمار العلم لديهم في وقتنا الحالي، وتمكينهم من خوض التجربة مع التعلّم، من أجل أن تترسخ لديهم المعرفة والعلم والخبرة في ذات الوقت.
فلو نُلاحظ الأطفال الذين يعملون في الزراعة منذ الصغر، نجد لديهم الخبرة الكافية في كيفية التعامل مع النباتات باختلاف أنواعها، بخلاف الشخص الذي تعلّم من الكتب فقط دون خوض التجربة على أرض الواقع.
وبهذا، يجب على كل فرد في العائلة أن يقتني كتابًا معينًا، وفق ما يراه مناسبًا، كل فترة معينة، يتم قراءته فيما بينه وبين أفراد العائلة، حيث يستفيد منه، ويستفيد أبناؤه منه، وهذا الأمر يُرسّخ في عقيدتهم القراءة، ويجعلهم يستمرون في القراءة بشكل دائم دون توقف، وهذا ما نلاحظه في الدول الغربية عندما يتم قراءة قصة ما قبل النوم، حيث إن ذلك يجعلهم يقرؤون بشكل دائم ومستمر.