المعضلة الاجتماعية (2-2)

عبيدلي العبيدلي

اعتبر بعض نقاد الأعمال السينمائية المستوى الفني لفيلم "المعضلة الاجتماعية "أكثر من متواضع، عندما يقارن بمستوى الحكاية التي تسردها المشاهد التوثيقية التي يرويها أبطال الفيلم الحقيقيون، الذين بنوا منصات التواصل الاجتماعي بأيديهم ومن صلب أفكارهم". هذا لا يقلل من النجاح التي أضفته الحبكة الفنية المتماسكة. فرغم أنها بدت في غاية البساطة، لكنها بالمقابل، نجحت في تجاوز تلك الرتابة التي غالبا ما تكون مصاحبة للأعمال التوثيقية. بل يمكن القول، دون اعتبار ذلك نقدا مهنيا، بقدر ما هو انطباعات مشاهد عادي، أن المخرج نجح في المواءمة بين ما هو سرد توثيقي وعمل درامي، فكسر بفضل ذلك رتابة التوثيق بمزجها بحرارة التشويق.

لكن ما أبعد من كل ذلك، وما هو أشد خطورة منه، هو أن قصة الفيلم وجهت ذهن المشاهد نحو مجموعة من الحقائق المرعبة التي فرضت نفسها فاحتلت حيزا من تفكيره الباطني، ودفعته دون وعي أو قرار مسبق، نحو مجموعة من القضايا المؤرقة عند إبحاره على مواقع الشبكة العنكبوتية. ويمكن إيجاز تلك الأفكار في النقاط التالية:

1- مصير قاتم ينتظر جيل المستقبل المشوه، الذي سيكون ضحية العنف والتآمر الذي سيطر على نسبة لا يستهان بها من شريط مشاهد الفيلم. ففي النقلات السريعة، التي كان الهدف منها شد انتباه المشاهد، بين مختبرات منصات التواصل الاجتماعي، كمرسل (بكسر السين)، وحامل الأجهزة الذكية التي يستخدمها ذلك المشاهد، كمتلقي، في تسيير دفة أنشطة حياته اليومية، المهنية منها والشخصية. يترسخ بفضل ذلك مجموعة مخيفة من الحقائق التي تنذر بذلك المستقبل القاتم الذي يبدأ في الكون خلال المسافة التي تقطعها المعلومات والمشاهد بين نقطة الإرسال من المختبرات ومحطة التلقي عند الأجهزة الذكية. سحب ذلك المستقبل القاتمة تحذر من جيل قلق، يعشق – كما تروي قصته مشاهد الفيلم- العنف، ويقدس الإرهاب، ولا يعف عن ممارسة الشذوذ بأشكاله المختلفة، ولا يتورع عن القتل لأسباب تقترب من العبثية.

2- تشويه الحقائق، بما فيها التاريخية، حيث تقصف مشاهد الفيلم ذهن القارئ بمجموعة متتالية من الأحداث التي تكشف كيف في وسع خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، زرع حقائق كاذبة في ذهن المشاهد، تمسح ذاكرته التاريخية الوطنية أولا، وتشوه قيمها ثانيا، وتضع مكانها أخرى كاذبة ثالثا وليس أخيرا. تسلب تلك المنصات، وبشكل تدريجي من مستخدمي محتوياتها ذاكرتهم الثقافية بعد أن تمسح من أذهانهم أصول تلك الثقافة من جذورها الحضارية.  ويتم ذلك بعد تغييب تفكير ذلك المستخدم الذي تحول من متلق إيجابي متفاعل بديناميكية متجددة، إلى آخر سلبي جامد. لا بل، وكما تروي مشاهد الفيلم، يتحول ذلك المشاهد إلى آلة متنقلة تروج ما فرضته عليه، دون ان يشعر، أو يدرك ذلك الفرض القسري، مخرجات الاستخدام المدمن على أجهزة التواصل الاجتماعي، التي باتت توصف بالأجهزة الذكية.

3- تحول أساليب نفوذ القوى الكبرى من السيطرة العسكرية إلى النفوذ الفكري، فلم تعد تلك القوى بحاجة إلى إرسال الجيوش، وبناء القواعد العسكرية الضخمة والمكلفة في آن. فعوضا عن ذلك، وجدنا تلك الكميات الضخمة من البيانات (Big Data) التي تقصف بها تلك المنصات بتوجيه من القوى التي تسيرها، سكان المدن، بل وحتى القرى، الذي تضعهم على قائمة الدول التي تنوي غزوها أو السيطرة على سلوك مواطنيها. هذا التحول في نموذج السيطرة من القوى الصلبة أو الخشنة في اتجاه القوة الناعمة، أصبح ركيزة الدول العظمى في بسط نفوذها على الدول الأخرى، وتحولت "المعلومة" إلى سلاح فتاك بين يديها، بفضل عمل الخوارزميات المتقدمة التي ترتكز عليها سياسات شركات منصات التواصل الاجتماعي، التي بات من الصعب، بل ربما من السذاجة فصلها عن دوائر صنع القرارات الاستراتيجية في عواصم بلدانها.

4- بناء اقتصاد منتجاته ذلك الزمن الذي يستغرقه تغير السلوك الإنساني في ابحاره على الإنترنت، فقد أصبح هم شركات تلك المنصات مراقبة التحول في سلوك من تتابعه على المواقع المختلفة المقامة فوق الشبكة العنكبوتية "الويب". قياس زمن التحول، وتسجيل سلوكيات صاحبة المرافقة لها تصبح، بعد معالجته بالخوارزميات المناسبة منتج. هذا شبيه بما كانت عليه مخرجات الأرض والمصانع المنتج (بفتح التاء) الذي يغذي الاقتصاد العالمي. وكل ما نجحت الخوارزميات المستخدمة في ملاحقة ذلك التغير في السلوك، كلما ارتفعت قيمة السلعة في نظر من يتحين فرصة شرائها.  بفضل ذلك باتت الحقائق هي المواد الخام التي تتولى خوارزميات ترتكز على معادلات رياضية معقدة تطويرها كي تنتقل من هيئة الحقائق الصماء عديمة الجدوى، إلى معلومات نفيسة تحتاجها دوائر صنع القرار في الدول العظمى، عند بناء الاستراتيجيات، ورسم الخطط المناسبة التي تتولى تنفيذها، وفق صيغ محددة، وضمن هياكل معينة.

5- صناعة الوعي الجمعي المزيف للمجتمعات الضحية، من خلال مسح الاختلافات الحضارية الموروثة التي تشكل الخلفية التاريخية للوعي المجتمعي الكلي لكل تكوين بنيان مجتمعي معين، وإحلال آخر مكانه، بعد شحنه بما تختاره تلك المنصات وفقا لمصالح أصحابها أو الجهات التي تقف وراءها. هذا التزييف المنهج يتم على جرعات، ووفق معايير مقيسة تضمن ذلك التحول التدريجي الذي يحقق محو الأصل وإحلال المزيف مكانه. ما يضاعف من خطورة هذه الصناعة هي سرعة انجاز ذلك الإحلال الذي ترافقه سرعة أخرى هي سرعة المسح. ويتم ذلك على نحو كوني شامل يتجاوز حدود الزمان التقليدية، ويتفوق على حواجز المكان المتعارف عليها. 

خاطرة تفرض نفسها بعد أن يصل المشاهد إلى نهاية فيلم المعضلة الاجتماعية (The Social Dilemma)، تلك هي عنوان رواية ""لعنة دافنشي"، لمؤلفها ليوناردو لوسبيناتو. لقد اعتبر دافينشي شخصية متميزة في للعصر الذي عاش فيه، وهو عصر النهضة. لماذا؟ لأن قاعدة معارفنا زادت بشكل كبير منذ أيام عصر النهضة. حينها، كان ذلك العصر يكافئ العباقرة من أمثال دافينشي. لكن، ربما اليوم، ونحن نعيش عصر منصات التواصل الاجتماعي، ستتحول إنجازات الرجال من أمثال دافينشي إلى لعنة على المجتمع، بدلا من أن تكون نعمة بين يديه.

فهل يحق لنا ان نطلق على الفيلم "لعنة المنصات الاجتماعية"؟ علامة استفهام كبيرة بحاجة إلى إجابة مقنعة. فهي ليست مجرد خاطرة أثارتها في أذهاننا مقاطع سينمائية متواترة، مهما بلغت دقة تواترها، ومتانة البناء الفني السينمائي الذي يقف وراء فيلم "المعضلة الاجتماعية".

الأكثر قراءة