قرار شجاع وحكيم

حاتم الطائي

◄ "اللجنة العليا" تدير الأزمة باحترافية عالية وشجاعة كبيرة

◄ الموجة الثانية من "كورونا" أشد شراسة عن الأولى.. والحذر الشديد حتمي

◄ أي إجراء لا يلتزم به الجميع سيفضي إلى غير النتائج المرجوة وسنعود للمربع الأول

قرار شجاع وحكيم وصائب.. هكذا يُمكن أن نصف بصدق القرار الذي أعلنته اللجنة العُليا المُكلفة ببحث آلية التَّعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، بمنع الحركة مرة ثانية وعودة الإغلاق لبعض الأنشطة غير المُلتزمة بإجراءات مُكافحة الفيروس، فما نشاهده يومياً من تراجع في مستوى الالتزام بالإجراءات الاحترازية والحرص على ارتداء الكمامات وتحقيق التباعد الجسدي بين الأفراد، وغيره الكثير، بدا مُؤشرًا على أنَّ ما حققناه من نجاحات على مستوى خفض أعداد الإصابات، سيذهب أدراج الرياح!

فعلى مدى الشهور الماضية بذلت اللجنة العُليا المُكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا، جهودا حثيثة خلال إدارتها للأزمة باحترافية وشجاعة، ووضعت على قمة أولوياتها صحة المُواطن والمُقيم وحماية الوطن من مخاطر هذا الفيروس قدر الإمكان، ولم تتوقف اللجنة يوماً عن نشر التوعية والتحذير من مغبة عدم التَّقيد بالإجراءات الوقائية، إلى جانب الغرامات المُشددة على المُخالفين وجهود مُختلف مؤسسات الدولة للحيلولة دون تفشي المرض، إلا أنَّ حالة التراخي وعدم الجدية في التقيد بالإجراءات، ساهمت في ما وصلنا إليه اليوم من وضع خطير بالفعل، وهذا ليس تضخيماً للواقع أو رغبة في بثِ ذعرٍ زائفٍ أو مبالغ فيه، بل إنِّها الحقيقة المُرَّة التي نستيقظ عليها كل صباح على مدى الأسابيع القليلة الماضية. فيكفي أن تذهب إلى أي مُؤسسة، عامة أو خاصة، لتجد حالة اللا مسؤولية مُنتشرة بين البعض، لا نقول الكل بالتأكيد، فالكثير من أفراد المُجتمع يتقيدون بالضوابط، لكن يكفي أن يتسبب القلة في تدمير جهود الجماعة، فما نمرُ به من أزمة صحية طارئة، ليس في عُمان وحسب بل العالم أجمع، يستدعي العمل الجماعي، ولا بديل عن ذلك، فمهما اتخذنا من إجراءات ومهما فرضنا من غرامات، بينما فئة قليلة تمضي عكس التيار الجمعي، فإنَّ كل ما ننفذه لن يكون ذا قيمة حقيقية، بل وكأننا نحرث في الماء.

فهل نُريد أن نظل نحرث في الماء دون جدوى؟

هذا سؤال أوجهه لكل فرد في المُجتمع، وخاصة فئة الشباب، الذين ظنوا أنَّهم في مأمن من المرض، وأنه إذا ما جاءهم سينجحون في التَّغلب عليه بفضل حيويتهم وشبابهم، وهذا خيال محض، فالمُؤكد والثابت علميًا أنَّ هذا الفيروس لم يترك وليدًا أو شاباً أو شيخاً، إلا وأثَّر عليه بصورة أو أخرى، وكم رأينا في مُجتمعنا من شباب أصيبوا بالمرض، ولم يستطيعوا التَّغلب عليه، وقضي أمر الله فيهم، ووافتهم المنية! ولذا الحل العملي والواقعي أن نتحلى جميعًا بالحرص، وأن نتغلب على غرورنا، ومن ثم يتقيد الجميع بالإجراءات.

إنني أقولها صراحة: لقد كنَّا بالأمس القريب يتمتع كل فرد فينا بحرية الحركة والخروج والتنقل، لكن اعتبارًا من اليوم، يتعين علينا الالتزام بقرار منع الحركة من الثامنة مساءً وحتى الخامسة صباحًا. وفي ظل الظروف الراهنة، وتفشي موجة ثانية أشد شراسة من الأولى، فإن الحذر الشديد بات أمرًا حتميًا على الجميع.

والذي دفع اللجنة العُليا لاتخاذ هذا القرار الحاسم والحازم، ما يُعاني منه القطاع الصحي من ضغوط هائلة، وخاصة الضغوط على أقسام ووحدات الرعاية المُركزة في المستشفيات، فضلاً عن حالة الإرهاق الشديد التي باتت تمثل متلازمة لكل العاملين في خط الدفاع الأول، الذين يقع على عاتقهم مسؤولية علاج المُصابين. ولنا أن نتخيل قدر الضغط النفسي الذي يئن منه كل عامل صحي، خاصة في ظل حالات الوفاة اليومية، وخشية الأطباء والممرضين والعاملين في هذا القطاع من نقل العدوى إلى ذويهم، أو تعرضهم أنفسهم للإصابة، وهم أكثر النَّاس علمًا بمخاطر وعواقب هذا المرض. ولا شك أنَّ القطاع الصحي في بلدنا، يُكافح بكل قوة من أجل الصمود أمام هذا الفيروس، لكنه لن يتمكن من الصمود بمُفرده، لعدم وجود علاج شافٍ ومُتفق عليه، وأيضاً عدم توافر لقاح ناجع يقي من الإصابة بهذا المرض، فالمجتمع بأسره مطالب بأن يدعم جهود الدولة للحفاظ على سلامة الجميع، فالمسؤولية فردية لتحقيق المنفعة الجماعية، وبدون ذلك سنُواجه مخاطر أشد- لا قدَّر الله! فمن المُؤكد أن لا أحد يُريد أن يذهب يوماً للمستشفى فيكون الرد "لا سرير شاغرا لك".

ومما يُؤكد صواب هذا القرار الجريء، ما حثَّ عليه صندوق النقد الدولي، بأهمية تنفيذ الإغلاقات الجزئية المُتقطعة بين الحين والآخر، بما يهدف إلى تخفيف الضغط على النظام الصحي، وفي الوقت نفسه عدم الإضرار بشدة بالقطاعات الاقتصادية. وقد عانت جميع القطاعات خلال الإغلاق الأول من وطأة الأزمة، وشاهدنا جميعاً شركات كبرى أفلست، وأخرى انهارت وتُحاول التَّعافي قدر المُستطاع، وهناك الملايين حول العالم فقدوا وظائفهم، وملايين آخرين سقطوا تحت خط الفقر والجوع. لذا نُؤكد أنَّه من الحكمة المُوازنة بين ضرورات الصحة وحتيمة فتح الاقتصاد، ولقد تحلت اللجنة العُليا بالفعل بهذه الموازنة، واستطاعت بنجاح أن تُدير الأزمة منذ بدايتها بحنكة ومسؤولية وطنية.

وهذا الحرص من قبل اللجنة العُليا على درء المخاطر، يُمثل جوهر عملها، كما إنها تعكس الإدارة الحكيمة من لدن حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- لهذه الأزمة، منذ صدور التوجيهات السامية بإنشاء اللجنة، التي باتت تُمثل "خلية أزمة"، دائمة الانعقاد، ومُتواصلة مع بعضها البعض على مدار الساعة. 

لكن في المُقابل، أي جهد حثيث تتخذه اللجنة العُليا أو مُؤسسات الدولة المُختلفة، لن يُؤتي ثماره ما لم يتعاون المُجتمع مع هذه الجهود، ولن يعود علينا بالنفع إذا لم يتقيد كل فرد في المُجتمع بالقرارات الصادرة، وسيطال الضرر الجميع بلا استثناء.

إنني أوجه دعوة صادقة ومُخلصة لكل مُواطن ومُقيم على أرض وطننا الحبيب، ألا يُغامروا بأنفسهم وبالمُجتمع، فحماية النفس تُسهم في حماية المجتمع بأسره، وكفى بنا عظة من خطر هذا الفيروس، أنَّ كل أسرة وكل بيت به مصاب أو فقيد نتيجة لهذا المرض الوبائي، علينا أن نُمارس أقصى درجات الحيطة والانتباه، وأن نتحلى بالحذر الشديد للفكاك من براثن وأهداب ذلك الفيروس، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، إما بزوال الفيروس من بلادنا، أو وصول اللقاح وابتكار الأدوية الكفيلة بالقضاء عليه.