ترجمة - رنا عبدالحكيم
تَطْرَح الكاتبة والمؤرخة مارجريت ماكميلان أستاذة التاريخ الدولي في جامعة أكسفورد، عبر كتابها "الحرب.. الصراع وتشكيل الإنسانية"، جُملة تساؤلات، بعضها منطقي والآخر استفزازي، خاصة عندما تعتبر الحرب والصراع من بين المكونات الأساسية للإنسانية على مرِّ التاريخ.
غلاف الكتاب
وترَى المؤلفة أنه يتعيَّن على البشر التفكير في مآلات الحروب أكثر من أي وقت مضى، وفي هذا الكتاب توضح بكتابة رشيقة كيفية إدارة عملية التفكير هذه. فتقول إن غريزة القتال ربما تكون فطرية في طبيعة البشر، لكن الحرب -أي العنف المنظم- لم تتطور في صورتها الحالية إلا في ظل المجتمع المنظم. وتضيف أنَّ الحرب شكلت تاريخ البشرية ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية وقيمها وأفكارها، كما أنَّها تعكس لغتنا ذاتها، ومساحاتنا العامة، وذاكرتنا الخاصة، وبعض أعظم كنوزنا الثقافية، مجد الحرب وبؤسها. لكن الحرب موضوع غير مريح وصعب، لأسباب ليس أقلها أنها تبرز أشنع وأنبل جوانب الإنسانية.
وتنظُر مارجريت ماكميلان في الطرق التي أثرت فيها الحرب على المجتمع البشري، وكيف أثرت التغييرات في التنظيم السياسي أو التكنولوجيا أو الأيديولوجيات بدورها على كيفية وسبب قتالنا. وهذا الكتاب يستكشف أسئلة خلافية ومثيرة للجدل؛ مثل: متى بدأت الحرب لأول مرة؟ هل الطبيعة البشرية محتم عليها أن تحارب بعضها البعض؟ لماذا وصفت الحرب بأنها أكثر الأنشطة البشرية تنظيمًا؟ لماذا يكون المحاربون دائمًا رجالًا؟ هل الحرب تحت سيطرتنا؟
وبالاعتماد على الدروس المستفادة من الحروب عبر الماضي، منذ التاريخ القديم وإلى يومنا هذا، تكشف ماكميلان عن الوجوه العديدة للحرب، والطريقة التي حددت بها ماضينا ومستقبلنا وآرائنا عن العالم ومفهومنا عن أنفسنا.
مارجريت ماكميلان
وتقُول ماكميلان في مقدمة الكتاب: "بصفتي مؤرخة، أعتقد اعتقادًا راسخًا أنه يتعين علينا تضمين الحرب في دراستنا للتاريخ البشري إذا أردنا أن نفهم أي شيء عن الماضي. لقد كانت تأثيرات الحرب عميقة لدرجة أنَّ تركها يعني تجاهل إحدى القوى العظمى، إلى جانب الجغرافيا والموارد والاقتصاد والأفكار والتغيرات الاجتماعية والسياسية، التي شكلت التنمية البشرية وغيرت التاريخ".
وترَى المؤلفة أنَّه وحتى المجتمعات التي تكون فيها المعايير الديمقراطية متأصلة بعمق ستلجأ إلى القوة للدفاع عن نفسها من التخريب الداخلي أو التهديدات الخارجية. وخلال الحربين العالميتين، مارست الحكومات الديمقراطية -مثل بريطانيا والولايات المتحدة- ضوابط على المجتمع على الاستهلاك، والحق في التنقل أو تخصيص الموارد، والتي قد تبدو غير محتملة في وقت السلم. ومن خلال التجنيد، أجبرت أيضا هذه الديمقراطيات شبابها على التجنيد والقتال والموت مع قواتها المسلحة.
وتُشير الكاتبة إلى أنَّ نمو الدول المركزية القوية تسبب في أن تكون الحروب أكثر فتكًا وتدميرًا؛ فمن خلال تعبئة الموارد، يمكن للحكومات إرسال قوات أكبر وشن حملات عسكرية لفترة أطول. كما أنَّ الزيادة الهائلة في القدرة الإنتاجية -كنتيجة للثورة الصناعية التي بدأت في القرن التاسع عشر- عززت إمكانية وقدرات الجيوش الكبيرة على القتال لأشهر وسنوات متتالية. علاوة على أن نمو ضريبة الدخل زادت من إيردات الحكومات، رغم أنها كانت عبئا نادرا وخفيفا في الولايات المتحدة قبل عام 1914، لكنها ارتفعت بشدة كإجراء طارئ خلال الحرب العالمية الأولى، ثم بعد ذلك عندما وجدت الحكومات الأمريكية أنها تستطيع فرض ضرائب أكبر دون تدمير الاقتصاد.
وهل يُمكن أن نعيش بدون حرب؟
تَرَى المؤلفة أنَّ العديد من المحاولات على مر العصور فشلت في الحد من الحرب أو إلغائها تمامًا، لدرجة أننا نميل إلى شطب مثل هذه المحاولات؛ باعتبار ذلك تفكيرًا عقيمًا من حيث المفهوم. ومع ذلك، فإنَّ هذا التشاؤم يتجاهل النجاحات التي تحققت في الماضي ويهيِّئ العالم للفشل مستقبلا. وتقول المؤلفة إنَّه يُمكن العثور على الأمل من الإغريق القدماء، الذين خصَّصوا أيَّامًا مقدسة لمنع القتال فيها، وهي ما تُشبه اليوم اتفاقيات الأسلحة الدولية الفعالة، أو تطوير قوانين الحرب الحديثة التي تنصُّ على ضرورة المعاملة الإنسانية للمدنيين والأسرى.
وتشدِّد ماكميلان على أهمية التمسك بهذا الأمل؛ لأن احتمالات حروب البشرية في المستقبل قاتمة للغاية، لاسيما مع تغير قدرات الحرب واتجاهها نحو مجالات غير مسبوقة. فمثلا يجري الآن "عسكرة الفضاء"،؛ الأمر الذي قد يفضي لسباق تسلُّح جديد. كما أنَّ انتشار الأسلحة الصغيرة الرخيصة نسبيًّا مثل الطائرات بدون طيار يضع قوة النيران المتزايدة في أيدٍ خَطِرة. علاوة على أنه من المفترض أن تكون الحرب البيولوجية والكيميائية محظورة بموجب الاتفاقيات الدولية، لكنَّ المؤلفة توضح أن الأمر لا يزال غير محظور لدى عشرات من الدول المارقة، مثل روسيا.
وتتكهَّن المؤرخة البريطانية بأن العقود القادمة ستشهد مزيدًا من الانتشار النووي؛ حيث تدرك القوى غير الآمنة؛ مثل: إيران والمملكة العربية السعودية، أهمية الردع النووي، وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق يتمثل في أن صنع الحرب قد يخرج عن سيطرة صانعي القرار من البشر؛ حيث بات الذكاء الاصطناعي يدير الأسلحة ذاتية التوجيه وخوارزميات صنع الحرب.
وتعتقدُ ماكميلان أنه في ظل النظام الدولي غير المستقر اليوم، باتت الدول أكثر ميلًا للاشتباه في النوايا العدائية. وترى احتمالات متزايدة للتصعيد، سواء في الشرق الأوسط، أو على طول الحدود بين الصين والهند، أو في بحر الصين الجنوبي. وتؤكد في كتابها أن الحرب ليست مجرد جزء مهم من تاريخنا، بل هي حاضرنا، وما لم تحدث ثورة في الوعي البشري، فإن مستقبل البشرية على المحك.