د. عبدالله باحجاج
كُلما يعلُو الإنسان، ويرتقي في العلو، يظهَر له المشهد من كل الاتجاهات، على عكس القابع في جهة دون الجهات الأخرى؛ لذلك ارتقيتُ فوق جبل، فبرزتْ لي الصورة بتفاصيل العلو، وفورا سارعتُ إلى استنطاقها -أي الصورة- بحماس الرَّاصد لمآلاتها، والمُقلَق حيال سلبياتها، والمتأمل في الإسراع لتداركها؛ فمن ذلك العلو، اكتشفتُ أنَّنا نعيد تشكيل مجتمعنا بلا وعي بماهيات الصناعة ولا بدرجات مخاطرها، والأخطر أننا غير معنيِّين حتى بالجوانب السيكولوجية التي يتشكل منها المشهد الاجتماعي الجديد.
من هذا العلو، رأيتُ أنَّ تفكير النُّخب الوزارية الجديدة لم يخرج من الصندوق القديم الذي كانت تفكر فيه النخب السابقة، رغم نضوبه، فحاولت منه -أي الصندوق- إعادة تأهيل بعض الأفكار القديمة؛ فتفاجأت على الفور بعدم قبولها من بيئتها الاجتماعية، وأثارت جدلا حتى الآن، ورجعت بالممارسة السياسية إلى الفردانية، ولم تراع الخطوات المتقدمة التي قُطِعت في السير المؤسساتي، ولا المسير الجديد المأمول في دولة المؤسسات، فاستفردت بالقرار، وعطلت عمل مؤسسات دستورية متعددة، وألغت شركاء إستراتيجيين.
ومن هذا العلو، اكتشفتُ عدم الاهتمام بالخارطة الاجتماعية السيكولوجية الناجمة عن التوجيهات والقرارات والتعميمات الإلزامية والفجائية، ولم تظهر لنا أية جهة حكومية أو سيادية تُعنى بتمظهرات البعد الاجتماعي السيكولوجي وأشكاله وأوقاته الزمنية، الكل يثبت لنا يوما بعد يوم أنهم يفكرون من منظور مالي خالص ومجرد، دون أن يدرسوا انعكاساته على الأمان الاجتماعي، وإذا لم ينتج عن الأمن الاقتصادي الأمان الاجتماعي، فكأننا نبني فوق رمال متحركة.
ومن هذا العلو، رأيتُ أن هناك تغييرات طارئة على مشهدنا الاجتماعي، وسريعة وغير متوقعة، مما قد يُدخلنا فيما يُسمَّى بمجتمع المخاطر، فقد وصلنا الآن إلى مرحلة أصبحت الرؤية الاجتماعية معها غير قادرة على استيعاب ما يدُور حولها من تعاقب مُتسارع للأحداث؛ فكلُّ استهداف المؤسسات الحكومية ينصب على المراتب الاجتماعية، وتحاصرها من الجهات الأربع، وتنزل جل غضبها عليها، وترى فيها العدو اللدود الذي ينبغي أن يُحَارب من أجل ضمانة مصادر دخل جديدة لموازنة الدولة السنوية.
حتى إنَّ بعض مليونيرات السلطنة، قد ذكر ذلك مجددا، عندما أشاروا إلى ارتفاع فاتورة الرواتب من أكثر من مليارين الى أكثر من 6 مليارات الآن، مما تصنف من قبلهم بمثابة عدو الاستدامة المالية لموازنة الدولة السنوية، وهذه من كبرى المفارقات التي لا تنطوي على الذين يعلمون ببواطن الأمور ودهاليزها، فعند عدم تسليمهم بنمو المرتبات، فإنهم يريدون بذلك عدم تطور المجتمع، وهم بذلك يريدون استمرارية احتكار الثروات، ويريدون بذلك تفقير المجتمع؛ لذلك لم يجدوا أمامهم سوى الطرف الأضعف.
وددت لو كان معي في هذا العلو كل أعضاء مجلس الشورى، ليروا من كل الاتجاهات حجم ثروات بلادنا المستغلة وغير المستغلة.. المستغلة وآليات وطرق توزيعها، وغير المستغلة التي تنتظر الإدارة التنفيذية الأمينة والجادة والمؤمنة بأنها يمكن أن تُحدِث الفارق وسريعا، وأنها البديل الآمن لمسار الضرائب، وسيرون كذلك الكم الكبير من الوزراء والوكلاء وأصحاب الدرجات الخاصة، وحجم مرتباتهم المرتفعة، وكيف يظلون محتفظين بها حتى بعد تقاعدهم..إلخ.
كانتْ نظرات مليونيراتنا بعين واحدة، بل وليست بكامل البصر، فلم ترَ إلا الطرف الأضعف، وخلطت بين الفرقاء وأوزانهم الشهرية، وحمولاتها على موازنة الدولة، وحتى لما جاء الاستهداف ظلت مرتباتهم محصنة.. لماذا؟ التساؤل يفتح مفارقة عقلية لم تغادر منطقة الوعي، ولن تغادر بسهولة ولا بسرعة متوقعة، وهل هم بحاجة أصلا لمرتباتهم بعد سنوات من منافع ومصالح الاستوزار؟ العين الواحدة وضعيفة البصر، لم ترَ إلا الطرف الأضعف فقط، وكل الموظفين العاديين قد تهاوت مرتباتهم إلى النصف، والبعض إلى ما دونه، فهل كان هذا الوضع يستعصي رؤيته على الأرض؟
بدأتْ عمليات استهداف المرتبات الاجتماعية، أولا بفرض رسوم جديدة ورفع الدعم الحكومي ومن ثم الضرائب، وانتقلت بسرعة فائقة إلى تخفيض مرتبات المُعينين الجدد في القطاع الحكومي، ومن ثمَّ إحالة الآلاف إلى التقاعد الإجباري. وأخيرا، وصلت بنا الحال إلى إلغاء ربط الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، وتوحيدها عند راتب 325 ريالا، والقادم المعلن ضريبة القيمة المضافة، وربما ضرائب أخرى، لن نستبعد أية استهدافات مباشرة أو غير مباشرة، فقد أطلقت العقول باتجاه رؤية واحدة فقط، وضعيفة البصر.
ورأيتُ من هذا العلو، تحول مرحلتنا إلى ساحة للشائعات والتسريبات، ترسِّخ الخوف، وتلوِّح بسياسة التخويف؛ فمن له مصلحة في زرع ثقافة الخوف وتبنِّي سياسات التخويف بدلا عن نشر الأمل وترسيخ الاطمئنان؟ لا يمكن التسليم بمبدأ التلقائية العفوية، حتى لو كانت كذلك، فذلك يعني لنا مجموعة حقائق؛ أبرزها: عدم الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للسياسات المالية والاقتصادية، وترك تداعياتها تحتقن تحت السطح حتى تنفجر في لحظة تقاطعات داخلية أو خارجية أو كليهما، ولنا في تجربة العام 2011 أفضل نموذج يُمكن أن يرفع الوعي السياسي بالقضايا التي نثيرها في مقال اليوم.
وحتى نُخاطب هذا الوعي السياسي، فإنَّ هناك تساؤلًا ستتم صياغته بصيغتين مختلفتين، ويستوجب أن يشغل قمة الاهتمام السياسي والأمني، وهو: ماذا نتوقع من مآلات مرتبات ضعيفة لأغلبية المجتمع؟ وإعادة صياغته على النحو التالي: ما تأثير عصر الجبايات "الضرائب والرسوم" على مجتمعنا العماني في ظل مرتباته الضعيفة؟ وربما علينا أنْ نفتح الآفاق بالتأثير السياسي التاريخي للضرائب والرسوم في بلادنا، وظفار نموذجا، حتى نُرشِد الوعي السياسي والأمني للتداعيات، لدواعي تجنبها.
وهذا الجنوح المتزايد وغير المنضبط نحو استهداف المرتبات الاجتماعية بمختلف السبل -الذي رأيته من العلو- يجعلنا نطرح هنا مجموعة تساؤلات مباشرة؛ أبرزها: هل كل تلكم الاستهدافات تُحافظ على صناعة المجتمع الولائي والانتمائي، وهى أهم عناصر قوتنا الناعمة؟ وهل تصنع لنا مجتمع "المواجهة"؟ فهناك تحديات داخلية وجيوسياسية لا يمكن مواجهتها بطبقة الأثرياء ومحيطهم الانتفاعي لوحدهم، ولا بالقوة الخشنة الآن، وإنما بالقوة الناعمة فقط؟ وهل تلكم السياسات والخطوات تصنع لبلادنا مجتمعَ التقنية إذا كانت المرتبات الضعيفة هي السائدة في المجتمع؟ وأين الاتجاه نحو الاقتصاد الإنتاجي؟ ولماذا لا نُسرِع به عوضا عن تحميل المجتمع ما لا ولن يتحمل؟ خاصة وهناك قطاعات قيادية، انطلاقتها تُكبلها القيود الزمنية وبعض الأفكار.
لقد خرجنا من هذا العلو بالنتيجة التالية: إنَّنا نُؤسِّس مجتمعا جديدا بمرتبات ودخول ضعيفة لأغلبية أفراده، وفي عصر تطغى عليه منظومة متكاملة من الضرائب والرسوم، وكذلك رفع يد الدولة عن مفاصل اجتماعية مهمة في مرحلة داخلية وخارجية حساسة جدًّا. فما مستقبل العلاقة السياسية الاجتماعية؟! والتساؤل الأخير يُطرح كذلك في ضوء جعل مستقبل جيل الشباب بأكمله مرتهنا بمزاجية القطاع الخاص، وإمكانية توظيف حاجة الشباب للعمل بعد إلغاء ربط الحد الأدنى للأجور بالمؤهلات، وهناك سيناريوهات متعددة للتوظيف، ومتعددة الأغراض.
هذا يُحتِّم على إدارتنا السياسية التدخُّل العاجل لتصحيح اختلالات هذا المسار المالي الذي يؤسس لمفاهيم جديدة وغير مسبوقة للدولة، ومن ثمَّ عليها دراسة العلاقة الجديدة مع المجتمع التي تصنعها مثل تلكم المسارات، والأرقام التي ذكرناها في مقالات سابقة، كالمقال المعنوان بـ"الأرقام الاجتماعية.. الضريبة المضافة خط أحمر"، فيه حجم المرتبات الضعيفة لأغلبية متقاعدي صناديق الحكومة والقطاع الخاص؛ فمثلا: أكثر من ثلاثة أرباع المتقاعدين في صناديق تقاعد موظفي القطاع العام تتراوح معاشات تقاعدهم ما بين 200 إلى أقل من 600 ريال، بينما في القطاع الخاص، تتراوح معاشات قرابة 71% من إجمالي المُتقاعدين بين 200 إلى أقل من 400 ريال.
وقياسًا على ذلك، يُمكن التأمل في الحد الأدنى الجديد للأجور في القطاع الخاص 325 ريالا، والفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى كالضمان الاجتماعي للآلاف من الأسر، وكذلك أعداد الباحثين، وأعداد الطلاب -وهم بالآلاف- الذين لم يتمكنوا من الحصول على فرص تعليم ما بعد الدبلوم العام للعام الدراسي 2020-2020.. وسيكون مصيرهم أحمالًا ثقيلة على المرتبات الضعيفة...إلخ، ولو عَدَدناهم، فكم سنجد نِسبتهم من تعداد السلطنة؟!