رؤية المرشدي.. كأنني أقرأها لأول مرة

 

 

د. عبدالله باحجاج

لماذا لا تشكل رؤية معالي عبدالسلام بن محمد المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العُماني لحل ملف الباحثين انطلاقتنا للحل المُستدام؟ تبادر إلى ذهني هذا التساؤل بعد قراءة رؤيته مُجددًا، وكأني أقرأها لأوَّل مرة، رغم أننا تناولناها ضمن سياقات سريعة في مقالاتنا السابقة بعد أن طرحها معاليه في ملتقى "معًا نتقدم" نسخة 2025.

قراءتنا المتجددة لها، جعلتنا نخرج منها بمرئيات وطنية مُلحَّة ضمن سياقات إقليمية، ونُقدمها لكي تُثري مسارات راهنة، وتُنضِج أفكارًا فوق الطاولة، وتُعيد بوصلة تفكيرنا الوطني لملف الباحثين عن عمل، خاصةً وأنها تصدر من شخصية علمية تقود كيان الاستثمارات الضخم في البلاد، ولها مسيرة قيادية طويلة في عالم الاستثمار تبلغ 13 عامًا؛ أي منذ عام 2012 عندما عُيِّن بمرسوم سلطاني رئيسًا تنفيذيًا لصندوق الاحتياطي العام للدولة بالدرجة الخاصة.

وتحت قيادته الآن إدارة فوائض ميزانيات الدولة واستثماراتها، وتحقيق أهداف استراتيجية للدولة؛ من أهمها: تنويع مصادر دخل اقتصادنا، وجذب وتوطين التقنية التي تُنتج فرص عمل، حاضرًا ومُستقبلًا، وبالتالي فهو ليس ببعيد عن مسؤولية ملف الباحثين عن عمل؛ بل نرى أنَّ جهاز الاستثمار العُماني هو المُناط به تطبيق رؤية المرشدي مع شركاء آخرين؛ لأنه في موقع القيادة لصناعة مستقبل قوتنا البشرية التقنية لتأمين احتياجات مستقبل اقتصادنا الجديد- كما سيأتي- وهو ينبغي أن يكون المُوجِّه لمسارات البعثات الحكومية؛ بما يتماهى مع الحاجة الفعلية لمستقبل الاقتصاديات الجديدة. وسنعرض أهم ما ورد في رؤية معاليه في الملتقى حتى نقترب من الحل المُستدام الذي ينبغي أن يكون خارطة طريق وطنية وعاجلة.

1- "بعض الوظائف لا أرضاها للعُمانيين" وهو لا ينطلق هنا من كونها دونية، وإنما لدواعي مستقبل اقتصادنا الجديد.

2- عدد الخريجين صغير يقدر بـ50 ألف سنوياً مُقارنة بمخرجات دول أخرى بالملايين.

3- نملك النفط والغاز وكل المقدرات المالية على أن ينال الخمسين ألف سنويًا أفضل وظائف متقدمة، عوضًا عن التركيز على الوظائف الدنيا.

4- العالم يتجه الآن نحو الاقتصاد الرقمي، وبإمكاننا أن نُعد أبناءنا لكي يكونوا روادًا في هذا الاقتصاد، عوضًا عن التركيز على الوظائف الدنيا.

تلكم النقاط الاستراتيجية تدفعنا لطرح التساؤل الذي بدأنا به المقال، ولم نرَ أفكارًا من المطبخ الحكومي في مستوى التماهي مع أفكار المرشدي، التي تنظُر للتراكم العددي للباحثين والسنوي كفرص لصناعة القوة الوطنية، وليس كمشكلة صعبة أو مستحيلة أو مُقلقة، وتنظر لهما بواقعية مُبسَّطة وسهلة الفهم، وقابلة للتطبيق، وتضعهما في سياقات الحتميات الوطنية لمواجهة تحديات البلاد في عالم التقنية. من هنا نرى أنه ينبغي أن يتم تبنيها كخارطة طريق على أن يُشكَّل لها كيان عالٍ للتفكير والتخطيط، من أجل بلورتها ضمن مشاريع سنوية، تتبلور ضمن البعثات السنوية والصفقات الكبرى التي تُبرمها البلاد عامةً، وجهاز الاستثمار خاصةً، مع الدول والشركات الكبيرة. على أن يكون المرشدي أحد أركان هذا الكيان؛ فعندما نربط المشاريع بالتحديات التقنية المقبلة على مختلف الصعد دون استثناء، سنرى أن رؤية المرشدي تنسجم مع المتغيرات الهائلة التي تشهدها الاقتصاديات العالمية. المثير هنا السباق "الخليجي- الخليجي" على الاستفراد بالقوة التقنية المُتعددة الأغراض، وبأثمان تريليونية عبر إقامة شراكات عالمية لإقامة بنية تقنية تحتية، رغم أنَّ إحداها حققت المركز الخامس عالميًا على مؤشر الأمن السيبراني لعام 2020، وعبر إقامة شراكات استراتيجية عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة قبل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة وأثنائها وبعدها.

ليست كل الدول الخليجية في مستوى واحد في هذا السباق؛ فهناك 3 منها بينها سباق تنافسي مُحتدم؛ مما يُضفي سلبياته على أجندات الوحدة والتكامل الخليجي، في حين أنّ هناك دولًا لا تتناغم مع هذا السباق، وإحداها مؤخرًا اتخذت قرارًا وزاريًا بتشكيل لجنة لخبراء الذكاء الاصطناعي من كفاءات محلية خالصة، بعضهم أكاديميون وآخرون يعملون في قطاعات حكومية ورسمية، ويعملون على تقديم مرئياتهم وتوصياتهم بشأن البرامج التدريبية والتعليمية، وهذا يُعطينا نموذجًا بأنَّ هناك دولًا خليجية تسابق الزمن، وأخرى تتنافس على البطء.

وعندما نُحلِّل رؤية معالي المرشدي، سنجد أنها تتماهى مع التحديات التقنية ومخاطر التنافسية الإقليمية؛ لذلك فهي لم تنظر للعدد التراكمي للباحثين أو السنوي كمشكلة، وإنما كفرص لا بُد أن تُستغل لمستقبل اقتصادنا الجديد، كما إنها بدَّدت مفهوم فرص العمل الدنيا من جانبين أساسيين؛ أحدهما: أنها غير صالحة للعُمانيين، والأخرى مُرتبطة بالأولى، وهي تكمن في المُتغيِّرات الديناميكية المُتسارِعة التي تستوجب من الدول تجهيز أبنائها لمستقبل الاقتصاد الجديد، ومن ثمَّ شددت الرؤية على وجود القدرة الوطنية لصناعة جيل التقنية، والمتمثلة في النفط والغاز والمقدرة المالية، ومعاليه على علمٍ بها، لتحويل العدد التراكمي والسنوي للباحثين إلى قوة مُنتِجة في الاقتصاد العُماني الجديد، كما قد تُصبح جاذبة للاستفادة منها إقليميًا في ظل التنافس الكبير سالف الذكر.

المرشدي يعلم دور جهاز الاستثمار العُماني في الدخول في شراكات استراتيجية مع شركات الذكاء الاصطناعي العالمية وشركات التكنولوجيا المُتقدمة، وتوطينها وتوفير فرص عمل للعُمانيين المهرة، ويمكن من خلال هذه الشراكات وتوطين صناعاتها، النص على النسبة المئوية للتعمين، كما تفعل دول التنافس الإقليمي؛ فهي تنُص في شراكاتها على نسبة 50% إلى 30%، وتُحدِّد لها إطارًا زمنيًا للتحقيق؛ فإحداها- مثلًا- عام 2030. لذلك، ذكرنا سابقاً أن لجهاز الاستثمار العُماني أدوارًا استراتيجية في بناء وإعادة بناء القدرات العُمانية للاقتصاديات الجديدة عامة، والاقتصاد العُماني خاصة، ولا بُد أن يُتاح لمعالي رئيس الجهاز تطبيق رؤيته في إطار تفكير وتخطيط جماعي وبحوكمة شفافة؛ فهي رؤية تنقل تفكيرنا الوطني من التشاؤم إلى التفاؤل من أعداد الباحثين التراكمي والسنوي، وتؤكد قدرتنا الاقتصادية والمالية على صناعتهم لاقتصاد وطني غير تقليدي يُراهن على التقنية وعلى مصادر دخل جديدة كالاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة، ومرتباتها مرتفعة جدًا.

وأخيرًا.. نقترح على جهاز الاستثمار العُماني استحداث برنامج قصير ومتوسط الأجل لصناعة قادة المستقبل تحت مسمى "قائد المستقبل"؛ لتطوير مهارات القيادة والتحول الرقمي، مع التركيز على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات المتقدمة، ونقترح إنشاء وحدة وطنية داخل نظام القبول الموحد لتحديد الحاجة الوطنية، العددية والنوعية، للتخصصات في تلكم القطاعات، وهو ما يفتقره نظام القبول الذي يعتمد على معايير ينبغي أن يُعاد النظر فيها، وقد يكون لنا مقال فيها قريبًا في ضوء ما علمنا بأن سعادة أحمد بن سعيد بن راشد البلوشي ممثل ولاية السيب في مجلس الشورى يُعِد دراسة حول تطوير نظام القبول الموحد وآلية تخصيص المنح الدراسية في البلاد من رؤى غير تقليدية.

الأكثر قراءة