سوق العمل في رؤية "عُمان 2040"

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

استندتْ رؤية عُمان 2040 في وضع توجُّهاتها على دراسة مستفيضة للوضع الراهن، وما يتوافر من دراسات ووثائق ذات صلة، واستفادت من أفضل الممارسات العالمية واستشراف المستقبل في القضايا الوطنية المختلفة.

وبالنسبة لسوق العمل، والذي تُعاني فيه السلطنة كغيرها من الدول النفطية من تشوهات في هيكله؛ حيث تشير الإحصاءات المتوفرة في نهاية العام 2019م إلى أنَّ خصائص سوق العمل في السلطنة تعاني من عدد من التشوهات نُوجزها في الآتي؛ أولاً: تركيبة سوق العمل العمانية تميل كِفة الميزان إلى صالح العمالة الوافدة، خاصة في القطاع الخاص؛ حيث إنَّ نسبة العمالة الوافدة في القطاع الخاص تزيد على 85% من إجمالي الوظائف. وثانياً: الإنتاجية للعمالة في السلطنة بالسالب، ويرجع ذلك من بين عوامل أخرى لتدني مُستويات المهارة للغالبية العظمى من العمالة الوافدة، إلى جانب طبيعة القاعدة الإنتاجية التقليدية وضعف المكوِّن التكنولوجي في الصادرات؛ فمعظم الصادرات سلع خام أولية، وكذلك الاعتماد على الاستيراد من الخارج للسلع والخدمات. وثالثاً: المهارة متدنية للغاية حيث 91% من العمالة الوافدة في القطاع الخاص تحمل مؤهل ثانوية عامة وما دون. ورابعا: تتركز 76% من العمالة الوافدة في السلطنة في ثلاث جنسيات آسيوية (بنجلاديش والهند وباكستان)، وهي متدنية المهارة ومتدنية الأجر وتصنف عالميًّا بأنها أقل الجنسيات ميلا للاستهلاك؛ لذلك تقوم الفئة الكبرى من هذه الجنسيات بتحويل معظم أجورهم للخارج، مما لا يفيد دورة الأنشطة الاقتصادية المحلية إطلاقًا؛ حيث تقدر تحويلات العاملين بنحو 4 مليارات ريال سنويًّا.

خامساً: مُساهمة المرأة في سوق العمل متدنية بشكل كبير؛ حيث لا تزيد على 7% في سوق العمل، و4% من إجمالي المشتغلين في القطاع الخاص. سادساً: أن الامتيازات الممنوحة والاستقرار الوظيفي في الحكومة وشركاتها تُعتبر أكثر جاذبية من القطاع الخاص، وهذا يفسر الإقبال الكبير على العمل في الحكومة وشركاتها الذي لم يعُد قادراً على استيعاب المزيد من الأيدي العاملة وضعف الطاقة الاستيعابية للقطاع الخاص ومحدودية قدرته على توليد وظائف للعمانيين.

لا شك أنَّ هذه التشوهات وغيرها في سوق العمل ستعيق تحقيق طموحات رؤية 2040، ويتطلب الأمر تدخلات وسياسات عامة للتأثير على أنماط سلوكيات وتوجهات أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال في القطاع الخاص، وكذلك الحكومة ذاتها لتحقيق التحول المنشود في سوق العمل. وذلك من خلال سياسة عمالية قابلة لتنفيذ والتنبؤ، تعمل تلك السياسات مع باقي السياسات بشكل متزامن وتغطِّي مختلف الجوانب المذكورة. كما أنَّ هناك حاجة ملحَّة لزيادة الجرعة التوعوية لتوضيح اختلالات سوق العمل وعواقب عدم التعامل معه بالشكل المناسب، وتعزيز درجة التواصل بين الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص وأفراد المجتمع؛ للوقوف على حجم التحديات في الجوانب الاقتصادية والمالية وحجم الفرص المتاحة في حالة تبني سياسات جريئة في سوق العمل تعمل على تذويب الفوارق بين القطاعين العام والخاص، وضرورة أن يجترح الجميع بعض الحلول لتحقيق مستقبل أفضل للجميع. كما أنَّ هناك حاجة ماسَّة لتوفير المعلومات الصحيحة والمحدَّثة حول سوق العمل.

وبالنظر للهيكل الديموغرافي للسلطنة، نجده يتميز بخصائص فريدة؛ فهو مجتمع فتى، حيث إنَّ ما نسبته 55% من عدد السكان تقل أعمارهم عن 24 سنة، في حين يشكل عدد السكان في الفئة العمرية (15-24) نحو 26.5%. فضلاً عن الارتفاع فى المعدل السنوي لنمو السكان. وهذا هو الرهان الرابح لعمان متى تمَّ تزويده بالعلم والمعرفة. الأمر الذي يُوفِّر للسلطنة إمكانية إحداث طفرة تنموية كبيرة إذا ما تمَّ استغلال طاقات السكان في سن العمل. وهذا يعني أن السلطنة تمر بما يمكن وصفه "الفرصة السكانية" التي يجب استغلالها لأنها تتلاشى بمرور الزمن. ولا شك أنَّ التحدي الديموغرافي بشكل عام وتزايد عدد الباحثين عن عمل بشكل خاص يُمثل التحدي الأول للسلطنة في المرحلة المقبلة؛ حيث يقدر عددهم  في الأجلين القصير والمتوسط بأعداد كبيرة أخذا في الاعتبار الباحثين الحاليين، والمتقاعدين، والمسرحين بسبب أزمة كورونا، والداخلين الجدد إلى سوق العمل. ويدرك الجميع  صعوبة استيعابهم في القطاع الحكومي وضعف جاهزية القطاع الخاص.

والسؤال المهم: كيف يُمكننا حشد هذه الطاقات وتوجيهها للقطاعات الإنتاجية؟

وعليه، تقوم رؤية عمان 2040 على إرساء أسس جديدة للاقتصاد العماني تستند إلى التنويع وتوظيف التكنولوجيا والقيمة المضافة العالية. وتنادي بسوق عمل ديناميكية تستوعب التغيرات الديمغرافية والاقتصادية والتقنية، وتنصُّ عبارة التوجه الإستراتيجي لسوق العمل والتشغيل على سوق عمل جاذب للكفاءات ومتفاعل ومواكب للتغيرات الديمغرافية والاقتصادية والمعرفية والتقنية. ووضعتْ الرؤية اليات واضحة لتحقيق التوجه من خلال تبني إستراتيجية واضحة للتشغيل الوطني، والنهوض ببرامج التدريب والتشغيل بالشراكة مع القطاع الخاص، ووضع القوانين والتشريعات، وتفعيل برامج التدريب داخل العمل والتشغيل الذاتي ودعم المشاريع الريادية... وغيرها. ومن وجهة نظري أنَّ رؤية عمان 2040 هي رؤية التحولات في مختلف الجوانب؛ فالتحول المنشود في سوق العمل من سوق معتمد على عماله وافدة محدودة المهارة وذات قيمة مضافة منخفضة وقليلة الدخل والإنفاق إلى سوق عمل قوامه العمالة الوطنية جيدة المهارة المعتمدة على التقانة والابتكار والجاذبة إلى العقول التي نحتاجها للارتقاء بالمستوى الاقتصادي، وتعظيم الاستفادة من الموار المحلية المتاحة. وقد حددت الرؤية مؤشرات أداء واضحة لهذه الأولوية من حيث نسبة العمالة الماهرة من إجمالي العمالة في القطاع الخاص والإنتاجية وحصة القوى العاملة العمانية من إجمالي الوظائف المستحدثة في القطاع الخاص.

إنَّ الخروج من حالة التوازن المتدني في سوق العمل، تستوجب توظيف التقنية والاستثمار في الموارد البشرية المحلية، واستقطاب الكفاءات؛ فالاعتماد على نموذج تعزيز التنافسية بناءً على العمالة الرخيصة وذات الإنتاجية المنخفضة، لا يتَوَافق مع التوجهات الإستراتيجية لرؤية عمان 2040، وهذا التغيير الهيكلي من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد إنتاجي يتطلب توازنا جديدا وتغييرات جوهرية في ديناميكية سوق العمل. وهناك أدوار عديدة لا تقتصر فقط على القطاع الحكوم بل تتعداها إلى القطاع الخاص وأفراد المجتمع. وبلا شك أننا بحاجة لإعادة تعريف التنافسية في الاقتصاد، من الصبغة الحالية القائمة على العمالة الرخيصة ذات القيمة المضافة المنخفضة، إلى تنافسية تقوم على الإنتاجية والابتكار والمعرفة، وهذا يقتضي مراجعة سياسة العمل المعمول بها حالياً.

ولا يخفى أنَّ سوق العمل أحد العناصر الأربعة لعملية الإنتاج، ولا تستقيم أية معادلة تنموية بدونها. فالموارد البشرية هي المحرك الأساسي لكل الجوانب الأخرى. ويعتمد سوق العمل على العرض والطلب، ويرتبط جانب العرض بالتركيبة السكانية والنظام التعليمي، في حين يرتبط جانب الطلب على النموذج التنموي وتركيبة الاقتصاد وما يولده من فرص عمل. ومن المهم التنويه إلى ضرورة تجنب معالجة مشكلة الباحثين عن العمل؛ من خلال استيعابهم في الأجهزة الحكومية (الريع وتوزيع المنافع) وتداعيات ذلك الوخيمة على حرمان القطاع الخاص والإنتاجي من هذه الكوادر، وزيادة العبء المالي على الموازنة العامة، وزيادة كِبر حجم الحكومة وتعدد أجهزتها، وانعكاسات ذلك على تشتت القرار وتشوه بيئة الأعمال. كما أنَّ نظام التعمين الحالي قد أدى دوره في المرحلة السابقة ولم يعد قادرًا على تحقيق أهدافه في السنوات الأخيرة؛ حيث تستمر نسبة انخفاض القوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص مقارنة بإجمالي العاملين في القطاع من سنة إلى أخرى.

وهناك حاجة لإعادة صياغة سياسات وإجراءات سوق العمل بهدف تحسين كفاءته وزيادة إنتاجيته، ليتمكن القطاع الخاص من القيام بدوره في خلق فرص عمل للمواطنين. وعليه، وأخذا في الاعتبار استشراف المستقبل والثورات الصناعية، وما هو أكثر قبولا من الشباب العماني، فلابد من البدء بتوظيف التكنولوجيا في العمليات الإنتاجية، والتي تساعد على إنجاز الأعمال بشكل مختلف، خاصة في قطاع المقاولات والصيد السمكي والزراعة، وهي أكثر القطاعات تشوها وتركزا للعمالة غير الماهرة. ولا تخفى أهمية العمل كفريق لإدارة سوق العمل لتشابك وتعقُّد وضعه الحالي، حيث لا يخفى أن خلق فرص عمل منتجة للمواطنين ليس مسؤولية وزارة العمل، وإنما مسؤولية مشتركة تلعب فيها مؤسسات المجتمع المدني والجهات الحكومية والخاصة المسؤولة عن الإنتاج والاستثمار والصناعة الدور الأهم؛ فخلق فرص عمل جديدة يتطلب تكبير حجم الاقتصاد.

ومن وجهة نظري، يستوجب النجاح في التعامل مع تحدِّي إيجاد فرص عمل منتجة للأعداد المتزايدة من أبناء هذا الوطن العزيز اتباع إستراتيجية متغيرة، وفلسفة جديدة، والعمل كفريق واحد وفق خطة إصلاح اقتصادي شامل، تنبثق عنها سياسات عامة تمس جميع المتعاملين في العملية التنموية من أفراد وأسر وشركات وحكومة ومتعاملين من الخارج، وكذلك تتعامل هذه السياسات بشكل متزامن ومتسق مع تشوهات عناصر الإنتاج الأربعة المعروفة؛ ومنها: سوق العمل الذي تناولناه اليوم، وكذلك رأس المال والموارد الطبيعية ومنظومة الإدارة، حيث إنَّ العمل في جُزر منعزلة لن ينجح، وتكوين فرق ولجان عمل مضيعة للوقت والجهد؛ فالرؤية تضمَّنت العديد من التوجهات الإستراتيجية والبرامج والمبادرات الكفيلة بتحقيقها، وما نحتاجه هو البدء بالعمل والتنفيذ؛ لأنَّ الوقت مهم، والمساحة المتاحة أمامنا تَضِيق لتحقيق التحولات المنشودة.

إننا نحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى أنْ نغيِّر نظرتنا للقوى العاملة الوطنية؛ بحيث لا نعتبرها عبئًا وعاملا يقوِّض نمونا في المستقبل، في حين أنَّ القوى العاملة الوطنية هى المحرك الأول والعامل المحدد لدرجة تقدم السلطنة، وأن أغلى ما تملكه عُمان هو ثروتها البشرية، ولا شك أن حُسن استخدام القوى البشرية، ورفع مهارتها، يكون له الأثر الأكبر في زيادة الإنتاج وإحداث التقدم المنشود.

وختاماً.. لا شك أنَّ المواطن هو غاية رؤية 2040 وأداتها، وتعتبر قضية سوق العمل قضية اجتماعية واقتصادية متداخلة وحساسة للغاية، ونجاح الرؤية سيعتمد بشكل مباشر في نجاحه على التعامل معها من خلال سياسات مناسبة؛ كون سوق العمل من أهم القطاعات الداعمة والمؤثرة في تحقيق رؤية عمان 2040.