د. صالح الفهدي
كثيرون أُصيبوا بجنون الشُّهرة لأغراضٍ شتَّى، على رأسها كسبُ المال، والتمتُّع به، والمُفاخرة بثروته، وهؤلاء أصنافٌ عديدةٌ لا يُستثنى منهم بعض رجال الدِّين، شاركوا غيرهم في شراء مُتابعين وهميين ليعظموا في أعين متابعيهم الحقيقيين، ولتكون لهم الحظوة الأكبر في المجتمع، والسطوة في الظهور الإعلامي، والهيبة في الحضور الاجتماعي..!
الذين يمتلكون الفضيلة، والنوايا الحميدة لتقديم الأعمال الصالحة للمجتمع لا يسعون إلى الشهرة، فإن اشتهروا فذلك لأنَّ أعمالهم نطقت، أو لأنَّ حسَّادهم نطقوا كما يقول الشاعر أبوتمام:
وإذا أراد الله نشرُ فضيلةٍ .. طويتْ، أتاحَ لها لسانَ حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت.. ما كان يُعرفُ طيبُ عرف العودِ
أمَّا من يدَّعون أنهم يُريدون الإصلاحَ، وفعل الخير بينما هم في حقيقتهم يقصدون الشهرة ومآربها الزائفة فهؤلاء يصدقُ فيهم قول الإمبراطور نابليون بونابرت:"من لا يُمارس الفضيلة إلا لاكتساب الشهرة كان أقرب إلى الرذيلة"، وفي سياقهم يأتي أولئك الذين يفعلون من أجل عين الشهرةِ ما لم يأتِ به الأوائل، لأنهم أدركوا قاعدة "خالف تُعرف" وليتهم خالفوا ليبدعوا، وينفعوا الإنسان بعملٍ مبتكر، مستحدث، يُغيِّر سلوكاً، أو يُصلحُ معضلةً، أو ينتجُ ما يحسِّنُ من معيشةِ البشر، بيد أنهم خالفوا لتسوء أعمالهم، وتخسفَ أخلاقهم، وتنتكس قيمهم، فلا قيمة لأنفسهم في أنفسهم، ولا قدرَ لسمعتهم في مجتمعهم، ولا وزن لكرامتهم في وطنهم إذا كان ذلك يكسبهم شهرةً عظيمةً دون أن يكترثوا لصنفِ هذه الشهرةِ وطبيعتها، إنَّما الإثارةُ في حدِّ ذاتها هي ما يبهجهم، ويفرح أنفسهم، وسيَّان بالنسبةِ لهم إن تحدث الناس عليهم بخير أو بشر، فذلك ما سيزيد من شهرتهم، ويرفع من منزلتهم، وهم يعلمون أنهم على سوئهم فإنهم أينما توجهوا يتزاحم الناس عليهم ابتغاء التقاطةِ ذكرى معهم يتفاخرُ بها الناس المهووسون بكل من هو أهبل مشهور، أو أخبل شائعٌ اسمه، وهم يعرفون أن الناس ستنسى بعد حينٍ فضائحهم، وسخافاتهم، ورذائلهم، وهم على كل ما قيل فيهم من مساوئ محتفظون بمكانتهم بين شرائح في المجتمعات تذمُّ تصرُّفها، ولكنها مستمرةٌ في متابعتها، وهذا ما يسهم في ضياع المفاهيم الأصيلة للمجتمع، يقول جون فيشر:" مجتمعاتنا يتم تخريبها بإصرار الدعاية على هذه المعادلة: الشباب يساوي الشهرة، والشهرة تساوي النجاح، والنجاح يساوي السعادة".
من قصص الشهرة العمياءِ ما فعله شاب وزوجته من المهووسين بالشهرة في إخافة ابنتهم حين تنكرت الأم بمكياجٍ مُخيفٍ، فظهر وجهها مُرعباً، أفزعت به ابنتها، فاختلط في المشهد صراخ الطفلة بضحكات الشاب الذي كان يصوِّر والأم التي كانت ترعب ابنتها، وسرعان ما تحركت الجهات المُختصة بحماية حقوق الطفل لتقلي القبض على الزوجين، ثم يُفرج عنهما بتعهدات معيَّنة.
وفي هذا السياق السخيف نفسه، يظهر أحد المهووسين بالشهرة ممن اشتهروا بتدبير المقالب بينه وزوجته وهو يُدبِّر مقلباً ليسقي زوجته كوباً من الماء القذرِ جلبه من الصرف الصحي، يُقدمه على أنه شاي، ولم يكن يعنيه تقزز المتابعين من المنظر، ولا تعنيه الكرامة الإنسانية، بقدر ما يعنيه أنه يفعل أمراً خارقاً ينالُ به شهرة، ولكن المشهد ينتهي به في أروقة مؤسسات قانونية..!
واستذكرُ هنا قصة الشاب الذي تفتق ذهنه عن فكرةٍ رهيبة لم يسبقه إليها أحد من قبل بعد أن نفدت الأفكار من ذهنه، فطلب من صديقته أن تطلق النَّار على كتابٍ يضمُّه في صدره، فإذا بالرصاصة تخترق الكتاب لتنفذ إلى صدره، فترديه جثةً هامدة، وتنتهي قصة الشهرة..!
ولا يزالُ هؤلاءِ يبتدعون كل يومٍ قصَّة لم يسبقهم إليها أحد، فلا أبقوا شيئاً من فواحش إلا فعلوها، ولا حيلاً إلا نفذوها، ولا مقالبَ إلا دبروها، وهدفهم الأول والأخير أن ينالوا شهرةً يرفعوا بها عدد متابعيهم، فيجنوا من ورائهم الأموال، ويسدوا النقص النفسي الذي يُعانونه في أنفسهم.
وأمرُ الشهرة الفارغة ليس حديثاً فقد روى الإمام ابن الجوزي (510 هـ _ 597 هـ) قصة وقعت أثناء الحج في زمانه، إذ بينما الحُجَّاج يطوفون بالكعبة، ويغرفون الماءَ مِن بِئر زَمْزَم، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والنَّاس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلَّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبَّحك الله، لِمَ فعلتَ هذا؟. قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فُلان الذي بال في بئر زمزم ! .
لا يزالُ هؤلاءِ التافهون يملؤون منصات التواصل الاجتماعي بالأفعال الشاذة، والسلوكات المنحرفة ليحصدوا مزيداً من شهرة خاوية، وسمعة جوفاء، فلا تعنيهم أخلاقٌ ولا سمعةٌ ولا قيم، فإن لم تردعهم القوانين التي تحمي هويات الشعوب، وخصوصياتها الأخلاقية فإنَّ تماديهم لن يتوقف عند حدٍّ مُعين، فالسباق بينهم على أشدِّه؛ من يشطحُ أكثر يشتهرُ أكثر، وكل ذلك على حساب أخلاقياتنا التي توارثناها أباً عن جد، وعلى حساب القيم المثلى لمجتمعاتنا.