فاطمة الحارثية
قال لي حكيمٌ التقيت به: إنَّ معظم الناس يبحثون عن نسخهم فيمن حولهم، أي يتأقلمون مع أشباههم ولا يحبون الاختلاف ولا من يتميز عنهم، ربما لأن عناء فهم أنفسهم وبين رؤية انعكاسهم فيمن حولهم أسهل إليهم من محاولة بذل الجهد لفهم المختلف؛ فاستحضرت جوهر وماهية الروابط في العلاقات الإنسانية، التي تتشكَّل وتتطوَّر غالبا من خلال مواءمة جوانب أساسية أربعة: العقلية والنفسية والجسدية والروحانية، مما يُهيئ وجود مناخ يسمح لتلك العوامل المشتركة بإيجاد الأسباب الأخلاقية ذات قيمة وقبول لحدوثها وتكونها، بغض النظر عن الأسباب الباطنة والمجهولة التي أوجدت هذا التشابه أو القبول، فالناس بفطرتهم تحكم علاقاتهم ظروف وعوامل كثيرة، لخَّصها بعض الفلاسفة في محيط ثلاثي: الخوف والألم والمتعة، ولي أن أقول إن استطاع العقل الفطن إدراكها، له أن يترجمها في الرغبة والمصلحة والمجهول، وإن جانبنا صراع العواطف والمشاعر، قد نُجمع أننا في حاجة ماسة لقوانين تحتوي وتفسر تطور تلك العلاقات ومدد بقائها وتشعبها، لكن نتفق جميعنا أنها مجهولة الأسباب لدينا ولا ندرك عمرها أيضا، والحكمة لدى الخالق وحدة في كل أمورها، وما علينا إلا قبولها والاجتهاد في محاولة فهم حدود الانصياع لها، وتركها لتؤدي أعمالها التي كُلفت بها، والخيار بأيدنا أن نتأثر ونندمج أو نحوم حولها، لكنني أؤكد أننا نحن من نقرر مدى توغلها وتحكمها وسيطرتها وسلطتها علينا، وإن احتوت على بنود القيم والمصالح وأحيانا كثيرة الحاجة؛ ثمة أمور عديدة تبلور تلك العلاقات وتعطيها هويتها الحقيقية.
في طيات تلك العلاقات، وإن اختلفت أسبابها وأهدافها ومعاييرها واستيعابنا لها، أرى أننا نستطيع الاندماج فيها بأقل الأضرار وحتى تؤدي دورها علينا بالصبر والثقة، نعم وإن استصغرنا هاتين الأداتين، إلا أنهما حكم فاصل في جميع العلاقات الإنسانية، وأستطيع أن أقول إنها تتربع على قائمة هرم حياة أية علاقة طويلة كانت أم قصيرة، قريبة أم بعيدة، عميقة أم مجنونة، حلوة أم مرة، ومهما كانت: غريبة أو عملية أو اجتماعية أو دينية؛ سواء بين الناس أو بين المخلوقات أجمع؛ يقول خوان خوسيه: "إننا لا ننتهي أبدا من صنع أنفسنا"، وهذا لا ينفي لجوء البعض للمرونة أو الحيلة أو الانحناء، أو اتباع أية وسيلة تبرر له صناعة نفسه وتحقيق شهوات تلك العلاقات؛ مما قد يُوتر مفاهيم الصواب والخطأ لدى البعض، وإدراك مكان ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الخير والشر. لست حالمة بعموم حُسن النوايا ولا بمعتقد أنه لا بأس بأن لا نكون بخير لأنه أمر طبيعي، ولا بقوة الخير أو ضعف الشر والانتصارات المقتضبة لما نخاله صوابا أو قصاصا أو خطأ؛ ثمة حقائق لن تمحوها الأماني بل الإقدام والاجتهاد والإخلاص، الخلاص ليس في يدٍ واحدة بل في جمعة الأنفس وقبول الاختلاف وعدم محاولة استنساخ أنفسنا، بل فهم المختلف لنتطور ونكمل بعضنا.
يُحكى أن قاصا أتت روايته عن سرب من الضالين، يموجون في غياهب المتعة حد فقدان إنسانيتهم، لا يسألون عن دمع ذرفت ولا نفس اضطهدت، ولا أيدي تمزق باطنها لرفع ستائر أحلامهم التي لا تنتهي، وإن نبه الغير لفعلهم، نسجوا حبكة النجاح وزمن الصراع ليبقى الأفضل؛ وإن سُئل أحدهم "لماذا؟" أتى حواره رنانا نلخصه في "ما منعهم أن يُشبهون!"؛ أصبح للقسوة عنوان ولنرسيس محل تقدير واشتغال لاستنساخه، وميكافيلي يضحك منتصرا كل مساء خلف آلاف الأبواب.
-----------------------
جسر:
لا، لسنا بخير، عندما نُدرك أن الوعي والجهل لم يعد عذرا لأخطائنا؛ فكم منا يبدأ مدار يومه متعمدا فعل السوء، مدركا جسامة أفعاله وسوء عمله، ومع ذلك يجتهد في إتمام ظلماته في انتشاء وتلذذ بقشعريرة وقهقهات الشر الرنانة.