عبيدلي العبيدلي
تدفعنا أرقام واتجاهات الأسواق العالمية المنخرطة في بناء منظومات إنتاج وتسويق واستخدام منصات وأجهزة وبرمجيات الواقع المُعزز والافتراضي، بسرعة نحو واقعها جميعا في البلاد العربية. ويرفع في وجه المتابع العربي لها علامة استفهام كبيرة تتحداه في الكشف عما إذا تمكن أي من تلك البلدان العربية من الوصول إلى الحد الأدنى من المُواصفات التي باتت تتطلبها تلك الأسواق.
تكشف الأرقام أن الأسواق العربية مجدية تجاريا واقتصاديا، وشأنها شأن نظيراتها من الأسواق الأخرى قابلة للنمو والازدهار. مقابل ذلك نجد أن صناعتها ما تزال، في أفضل الأحوال، في مراحل بدائية لا تؤهلها للدخول في منافسات مجزية مع من سبقوها في هذا الميدان. ولا يقتصر أمر هذا التخلف على صناعة المعدات والأجهزة، بل يتجاوزها، كي يشمل المحتوى والبرمجيات.
وكي يتسنى للبلاد العربية النهوض بصناعة مجدية، وقابلة للنمو والصمود في وجه منافساتها الشرسة والمتنامية مع نظيراتها الأجنبية، تنقلها من خانة الاستهلاك المحض، إلى صفوف المنتجين والمستهلكين في آن، لابد لها من إعادة النظر، وبشكل جدي في القضايا التالية:
- إعادة النظر في المنظومات التعليمية الحالية، ونسفها من أساساتها، وفي مراحلها البدائية الأولى. إعادة النظر هذه مطالبة بأن تتحاشى المداخل الشكلية التجميلية، وأن تغوص عميقاً في كيفية تخريج جيوش من الأجيال العربية المؤهلة أكاديمياً وعلمياً بما تحتاج إليه هذه الصناعة من موارد بشرية مؤهلة، قادرة على صناعة افتراضية أو مُعززة تحمل في أحشائها ما تتطلبه الأسواق المنافسة من مُواصفات، وما يتطلبه مستخدمها من أداء. وليس في وسع مشروع بناء مثل هذه المنظومة المتقدمة الانتظار حتى المراحل النهائية من مراحل التعليم، بل هو مطالب أن يغرسها وبطريقة مهنية عالية في المراحل المبكرة، وفي سنواتها الأولى. وهذا يقتضي الخروج من دائرة تعليم الحفظ والتسميع الأعمى الجامد، إلى مستوى التفكير الإبداعي الخلاق
- زيارة جادة لمشروعات التحول الحضاري. فبخلاف ما يذهب له البعض في الفصل بين التحول الحضاري والتقدم العلمي والصناعي في آن، نجد أن ما شهده الغرب من ثورات علمية انعكست إيجابيا على تقدمهم العلمي والصناعي. ولم يكن ذلك ليحدث لولا نجاح حركة التنوير التي عرفتها أوروبا، والتي قد يختلف البعض على تحديد أصولها فهناك من يرجع أصولها إلى القرن السابع عشر، وهو تاريخ مُواكبتها للثورة العلمية التي عمَّت معظم البلدان الأوروبية، وهناك من يرجعها إلى مرحلة الثورة الفرنسية (1789 – 1799). لكن الأهم من تحديد تاريخ الغرب مرحلة التنوير هو معرفة التحولات التي أحدثها ذلك الولوج. وهو أمر تناوله العديد من المؤرخين الغربيين من أمثال سوزان آبرنيثي (Susan Abernethy) التي ترى أن "أفكار عصر النهضة قادت النّاس لدراسة العالمِ الملموُس بشكل أقرب، ممَّا قادهم إلى دراسات علميّة أعظم... خلال عصر التّنوير، كان هناك تركيزٌ أكبر على المناهج العمليّة، وعلمنة التعليم، والتسامح الدّيني، والتعليم العام، والحريّات الشخصيّة، والعقلانيّة". والتمعن فيما ربطت فيه سوزان بين دور التحول الحضاري الأوروبي والتقدم العلمي الذي كانت أهم انعكاساته تلك الثورة الصناعية التي غيرت معالم العالم، يرشدنا نحو طريق الحاجة إلى مثل هذا التحول، كي يتسنى لنا التحول في المنظومة التعليمية العربية، إن شئنا التقدم على طريق الثورة الصناعية المطلوبة، التي بوسعها أن تقودنا نحو صناعة افتراضية ناجحة. وفي السياق ذاته يجيب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (Immanuel Kant) عن سؤال ما هو التنوير؟ بقوله:" إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا."
- الربط الانسيابي المتناغم، غير المبتسر بين النظم التعليمية والسياسات التربوية، بشكل تبادلي عميق، وذي مدى طويل الأجل. ومن غير المجدي حصر عمليات إعادة النظر في الفصول الدراسية، وعزلها عما يدو في المنزل، وعلى نطاق أوسع خارج جدرانه. ففي غياب بيئة منزلية حاضنة لأي تحول تعرفه المنظومة التعليمية، او مبتورة عن جذورها، يفقد صاحب قرار التحول - نحو صناعة منظومة انتاج البيئات الافتراضية أو المعززة - القدرة على إكمال دائرة دورة الصناعة التي تحتاجها. وستكون النتائج، محبطة. إذ لن تكون المخرجات النهائية مطابقة لتصورات وطموحات برامج التخطيط المرافقة. اكتمال دورة الدائرة ضرورية بشكل عام، وفي كل مرحلة من مراحلها على نحو خاص. مثل هذا التحول يتطلب، إن أريد له تحقيق أهدافه، أن يتم إنضاجه على نار هادئة، تتحاشى حرق المراحل، والقفز غير محسوب العواقب على العقبات الطبيعية التي تواجه أية محاولة لإحداث مثل هذه النقلة النوعية في سلوك أعضاء المجتمع تجاه كل ما هو جديد ومبدع.
- بناء المنظومة التشريعية والقضائية القائمة على درجة عالية من الرشاقة التي تخول من يستخدمها لإعادة النظر المتكررة والمتواصلة في مكوناتها، وتبيح له التصحيح والتطوير اللذين تتطلبهما صناعة وأسواق منظومات الواقعين الافتراضي والمُعزز. بناء مثل هذه المنظومة التشريعية، تتطلب توفر بيئة موازية لها تتمتع بالمؤهلات التقنية، قبل القانونية التي تساعدها في عمليات المراجعة والتطوير أولاً، وامتلاك الصلاحيات المطلوبة ثانيا، والسيطرة على توجيه الدوائر المخولة بالتنفيذ ثالثا، وليس أخيرا. وتأتي العتبة الأولى على سلم أولويات الوصول إلى الحدود الدنيا من بناء أساسات هذه المنظومة، توفير قانون يحترم ويحمي في آن حقوق الملكية الفكرية المعقدة المرافق الطبيعي اللصيق بمنظومة بناء صناعة المجتمعات المعززة والافتراضية. كل ذلك من أجل الوصول إلى المعادلة الصحيحة المطلوبة بين صناعة راسخة الأركان، تؤمن طريق التطور الذي لا يعرف التوقف، وتحقق القدرة التنافسية المطلوبة التي تحتاجها منتجات هذه الصناعة العربية. وفي غياب أي منهما تجعل من تلك الصناعة تجري في سباق غير عادل نتائج خسارته معروفة مسبقا.
أربع خطوات مدروسة، ومن المؤكد أن تكون هناك أخرى بوسع من يصمم على ولوج طريق بناء منظومة الصناعة الافتراضية العربية الراسخة الأركان الواضحة المعالم أن يضيفها، تبقى ضرورية ولا يمكن المساومة على أن منها لمن يريد أي يؤسس لصناعة تلك المنظومة، التي يحتل التحول الحضاري مكانة الصدارة فيها، ويحظى تطوير المنظومة التعليمية بالمكانة الأهم بين مكوناتها.