هل العالم قادر على بناء "المجتمع الصالح" رغم العيوب العميقة؟

"واقع آخر".. رؤية مستقبلية للاشتراكية الديمقراطية في "عالم ما بعد كورونا"

◄ أزمة "كورونا" عززت السلطوية حول العالم ومكنت الحكومات من السيطرة على مواطنيها بالكامل

◄ الحكومات ضللت اليساريين السذج خلال الإغلاق العام وحظر التجوال

◄ بدلا من التعاون الدولي لمواجهة الفيروس.. أُغلقت الحدود بين الدول!

◄ الكتاب يتخيل عالما بدون بنوك أو أسواق مالية.. والشركات مملوكة للعاملين فيها

ترجمة - رنا عبدالحكيم

يتخيَّل الخبيرُ الاقتصاديُّ يانيس فاروفاكيس مُستقبلًا مُغايرا في أعقاب تفشي فيروس كورونا، ويرسم رؤية جريئة للاشتراكية الديمقراطية، في كتابه الجديد "واقع آخر.. رسائل من الحاضر البديل".

يانيس فاروفاكيس.jpg
 

ويرى يانيس فاروفاكيس -الذي شغل منصب وزير المالية في اليونان سابقا- أنَّ الرأسمالية انطلقت بقوة عندما بدأت أسواق الأسهم تتطور في نهاية القرن التاسع عشر، مع ظهور التقنيات الكهربائية في التداول، وأدى ذلك إلى نشوء شركات عملاقة متصلة بشبكات الكهرباء؛ مثل إديسون، التي أنتجت كل شيء من محطات الطاقة إلى المصابيح الكهربائية. ولتمويل المشروع الضخم والتجارة الضخمة في أسهم هذه الشركات، نشأت الحاجة إلى البنوك الضخمة، وبحلول أوائل العشرينيات من القرن الماضي، انتشرت الرأسمالية المالية (أحد أشكال الرأسمالية الحديثة وهي عمليات الإنتاج إلى تراكم الأرباح من الأموال في النظام المالي)، قبل أن تنهار المنظومة الرأسمالية بأكملها في عام 1929 مع الكساد العظيم.

ويوضح المؤلف -في كتابه الأكثر مبيعًا- أنَّ العقد الحالي من القرن الواحد والعشرين، بدأ مع اقتران آخر يبدو أنه يدفع العالم بسرعة مذهلة نحو فقاعة هائلة تعيد بها الدول تعويم القطاع المالي منذ عام 2008، إلى جانب أزمة تفشي مرض كوفيد 19. وليس من الصعب اكتشاف الدليل؛ ففي 12 أغسطس، عندما أعلن أنَّ الاقتصاد البريطاني سجل أكبر ركود له على الإطلاق، قفزت بورصة لندن بأكثر من 2%، مما يشير إلى أنَّ الرأسمالية المالية -فيما يبدو- انفصلت أخيرًا عن الاقتصاد الأساسي.

ويبدأ الكتاب برصد الأزمات المالية منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ويمتد بين أزمات 2008 و2020، لكنه يرسم أيضًا مستقبلًا خياليًا، ينتهي في عام 2036. وسلط المؤلف الضوء على مسألة رؤية الحاضر من نافذة المستقبل، حيث يتخيل مشهدا في أحد مساءات يوم الأحد خلال شهر نوفمبر من عام 2025، حيث يتحدث البعض عن محاولات فهم ظروفهم -الآنية في ذلك الزمن المستقبلي- من خلال النظر إلى أحداث عام 2020، وكان أول ما لاحظوه هو كيف غيّر الإغلاق العام حول العالم بشكل جذري تصور الناس للسياسة.

فقبل عام 2020، كان يُنظر دائما إلى السياسة باعتبارها لعبة، لكن في ظل كورونا أدرك الجميع أن الحكومات في كل مكان تمتلك قوى هائلة؛ إذ تسبب الفيروس في حظر التجول ببعض المدن على مدار الـ24 ساعة، مع إغلاق الحانات، وحظر المشي في الحدائق، وتعليق الأنشطة الرياضية، وإفراغ المسارح من مرتاديها، وإسكات آلات الموسيقى والعزف.

وفي جميع أنحاء العالم تقريبًا، دفعت الدولة أجور الموظفين في شركات القطاع الخاص، وأعادت تأميم المرافق، واستحوذت على شركات الطيران، وشركات صناعة السيارات، وحتى البنوك. ومنذ الأسبوع الأول من الإغلاق، نزع الوباء ورقة التوت الأخيرة عن النظم السياسية في العالم، ليكشف عن الواقع البائس تحتها، وهي أن بعض الناس لديهم القدرة على إخبار البقية بما يتعين عليهم فعله.

لكنَّ التدخلات الحكومية الهائلة ضللت اليساريين السذج الذين راودتهم أحلام اليقظة بأن إحياء سلطة الدولة من شأنه أن يثبت أنها قوة من أجل الخير. لكن يبدو أنهم نسوا ما قاله الماركسي فلاديمير لينين ذات مرة: "السياسة تدور حول من يفعل ماذا لمن". لقد سمحوا لأنفسهم بأن يأملوا في حدوث شيء جيد إذا وافقوا وخضعوا لسلطة النخب ذاتها التي حكمت بنفوذ لا حدود له.

ويشير الكتاب إلى أن الأشخاص الأشد فقراً وذوي البشرة السمراء كانوا الأكثر معاناة من الفيروس، معللا ذلك بأن فقرهم كان سببا لعدم تمكينهم اجتماعيًا، ما جعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. وفي الوقت نفسه، عززت الشركات الكبرى -التي تعتمد دائمًا على الدولة- من قدرتها على احتكار السلع والخدمات والمنتجات.

ويوضِّح المؤلف أنه وبدلاً من التعاون الدولي لمواجهة الفيروس، أغلقت الحدود، وعرض الرؤساء حول العالم على مواطنيهم المحبطين تجارة بسيطة: سلطات ديكتاتورية مقابل الحماية من فيروس قاتل.

 

إذن.. كيف سيبدو المجتمع العادل ذو الأفراد المتساوين؟

يقدم فاروفاكيس إجابة راديكالية وتخريبية في نفس الوقت؛ حيث يتخيَّل أنه بينما نعيش في عام 2025، نتذكر ما حدث قبل سنوات، في أعقاب الأزمة المالية للعام 2008؛ إذ تفجرت ثورة تكنولوجية عالمية في عالم ما بعد الرأسمالية، وأصبح العمل والمال والأرض والشبكات الرقمية والسياسة تسير وفق قواعد ديمقراطية حقيقية!

ويقدم الاقتصادي الشهير يانيس فاروفاكيس في هذا الكتاب أيضا لمحة عن ذلك الواقع البديل؛ حيث يقدم روايته على لسان ثلاث شخصيات رئيسية: مصرفي ليبرالي سابق، وماركسي مُناصر لقضايا المرأة، ومهندس تقني متمرد. ومن خلال أحداث الكتاب نرى نشأة عالم بدون بنوك تجارية أو أسواق مالية؛ حيث الشركات مملوكة بالتساوي لجميع العاملين فيها، والدخل الأساسي أمر مضمون لا شك فيه، ولا وجود لاختلالات عالمية أو تغير مناخي، والإسكان الاجتماعي متوافر للجميع.

لكن الكتاب يطرح أسئلة ملحة وبالغة التعقيد؛ منها: هل الاشتراكية الليبرالية ممكنة؟ وهل يمكن أن يتحقق النمو والازدهار عالميا دون أن ندمر كوكب الأرض؟ وهل نحن قادرون على بناء المجتمع الصالح رغم عيوبنا؟

وعلى الرغم مما يتصف به الكتاب من راديكالية من حيث الشكل والمضمون، إلا أنه يدمج الحوار الأفلاطوني (المثالي) مع الخيال التأملي، لإظهار أن ثمة بديلًا للرأسمالية، لكن في الوقت نفسه يدفع الكتاب القراء إلى طرح السؤال الأكبر: إلى أي مدى نحن على استعداد لبلوغ ذلك العالم الخيالي؟!

تعليق عبر الفيس بوك