ليس كل الفقراء يكذبون!!

 

عبدالله الفارسي

 

هناك مقولة شهيرة يمقتها الأغنياء ولا يُحبها الفقراء تقول "الأغنياء يحتالون.. والفقراء يكذبون".

كُلنا يعلم أو سمع بالمقولة الإسلامية المأثورة "ما استغنى غني إلا من مال فقير"؛ فكل ثروات الأغنياء أو ثلاثة أرباعها على الأقل مصدرها استغلال للفقراء، هذه هي قاعدة الثراء وقانون الفقر في كل أصقاع الدنيا منذ خلق الله أبانا آدم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

في الأسبوع الماضي وتحديداً يوم 9 سبتمبر، قرأت خبرًا مضمونه تعليق أو رد من وزارة التنمية الاجتماعية على مقطع صوتي مُتداول لامرأة تشكو من ضنك العيش وقلة الحيلة، وطبعاً هذه النوعية من المقاطع تحديدا تنتشر بسرعة لأسباب كثيرة لا أود التطرق إليها أو العزف عليها.

إنها شكاوى المواطن التي لا تنتهي ودفاع المُؤسسات الحكومية المستميت عن شعارها وتنزيه نفسها عن الخطأ والخلل والقصور، إنها معارك الحياة اليومية وسجالات المُواطن الخالدة.

حين قرأت رد وزارة التنمية على المقطع الصوتي المتداول تذكرت هذه القصة التي روتها لي امرأة فاضلة من نساء المجتمع البارزات في الساحة الثقافية.

كنت قبل ثلاثة أسابيع مع امرأة فاضلة من نساء المجتمع المرموقات اللائي كان لهن الدور الكبير في الصحوة الثقافية والأدبية في الوطن- أسأل الله أن يحفظها ويُمتعها بالصحة والعافية- كانت تراجع لي كتابي الذي امتلأ بالغبار وكساه التراب في بيتي، والذي أتمنى أن أنشره قبل أن أغادر هذا العالم غير مأسوف عليه.

تناقشنا في عدة قضايا كان من ضمنها ضرورة رفع مستوى التعاطف مع الفقراء والمساكين فالرحمة أهم وسيلة من وسائل استقرار المُجتمعات بل هي في الحقيقة صمام أمانها الرئيس. فقالت لي: نعم بالفعل العطف فضيلة عظيمة، رغم أنَّ الفقراء للأسف يكذبون!!

قلت لها: كيف.. لم أفهمك سيدتي؟

فحكت لي قصة حدثت معها بسبب تعاطفها الزائد مع الفقراء، سأنقشها لكم بطريقتي الغريبة، وسأرسمها بريشتي الخفيفة.

قالت المُتحدثة: كنت قادمة من عملي في نهاية يوم عمل مُرهق، وكنت مُتعبة جدا فرأيت امرأة فقيرة تمشي في الشارع في درجة حرارة تجاوزت التسعة وأربعين درجة مئوية حسب مُؤشر سيارتي، فلم أحتمل المنظر، فتحرك قلبي لها، وارتعشت روحي عليها وقررت الوقوف لها، فأوقفت سيارتي بجانبها وقلت لها أركبي بسرعة، ركبت المرأة، وحين نظرت إليها كان وجهها كأنَّه رغيف خبز نسي في الفرن يوماً كاملاً. وكانت رائحة جسدها كرائحة قطعة لحم مشوية على نار هادئة.

أوجعني منظرها كثيرًا، وبعثر مشاعري درجة التخلخل والتشظي.. أعطيتها قارورة الماء التي معي لتبلل ريقها وتطفىء حرارة شرايينها. كنت أظنها تريد توصيلة قصيرة، لكن صدمتني عندما قالت لي بأنَّ بيتها في أقصى المعبيلة الشمالية.

لم يُطاوعني قلبي أن أعتذر منها وأنزلها، فأضطررت إلى أخذها من الحيل إلى مكان سكنها. وأثناء الطريق دردشت معها عن حالها وأوضاعها، فأخذت تسرد لي قصصها المُحزنة وأحوالها المؤلمة، وقلة حيلتها وهوانها على النَّاس، ورتلت على مساعي قصائد البؤس وأناشيد الفاقة، حتى تكدرت نفسي، وضاقت روحي وكدت أبكي، وحين وصلنا عند باب بيتها. قالت لي: أنا أستأجر هذا البيت، وصاحبه سيطردنا منه أنا وأولادي خلال شهرين إذا لم ندفع له مبلغ الإيجار!!

فصدقتها، لأنني أعيش واقع هذا الجشع غير الطبيعي لأصحاب العقارات وطمع المُؤجرين وأصحاب البنايات. فطلبت اسمها كاملاً، ورقم بطاقتها الشخصية، وقبل أن تترجل من سيارتي مددت لها على استحياء كل الموجود من الأوراق النقدية الضئيلة التي كانت تسكن محفظتي.

عدت إلى بيتي منهكة مغمومة حتى جوعي اختفى وشهيتي أنطفأت. كانت تشتعل في رأسي فكرة واحدة فقط وهي مُقابلة المسؤول/ المسؤولة في وزارة التنمية الاجتماعية ومُناقشة قضية هذه المرأة الفقيرة المسكينة.

تقول المتحدثة: ولحسن حظي تذكرت أنَّ المسؤولة بوزارة التنمية كانت صديقة وزميلة قديمة، جمعتنا الحياة في مشاركات اجتماعية وثقافية كثيرة.

اتصلت بها في المساء وضربت معها موعداً في مكتبها صباح اليوم التالي، ولم أحبذ أن أحدثها عن موضوع المرأة الفقيرة تلك على الهاتف. وفي صباح اليوم التالي، ذهبت إلى وزارة التنمية الاجتماعية لمُقابلة المسؤولة صديقتي، فكان لقاءً دافئاً رقيقاً لم نخطط له، ولم نتوقع حدوثه، فدخل لقاؤنا ضمن قائمة المثل الشهير "رب صدفة خير من ألف ميعاد".

بعد الانتهاء من الدردشات والفضفضات وتبادل علوم النساء وانتصارات الصديقات وإنكسارات الأعداء، قالت لي: لا أظن أنَّ زيارتك هذه لمجرد الدردشة اللذيذة، أنا متأكدة بأنَّ لديك مشكلة كبيرة أو شكوى عظيمة تحملينها لي. فضحكت وقلت لها: نعم.. وأخبرتها بقصة تلك المرأة التي أنقذتها من براثن الشمس وحملتها في سيارتي قبل أن يُمزقها الأسفلت ويأكلها الرصيف.

فابتسمت وقالت لي: أعطيني اسمها ورقم بطاقتها. سلمتها الورقة التي تحمل اسمها وبياناتها، فاتصلت بمنسقتها مُباشرة.. وقالت لها احضري لي ملف هذه المرأة بسرعة.

دقائق قليلة وكان الملف أمامنا، فتحت صديقتي الملف وقرأت لي بيانات المرأة كاملة. وقالت لي: هذه المرأة يصرف لها راتب وقدره (..)، وأعطيت مساعدة مادية منذ أشهر وقدرها (..) وقبل شهرين تم تزويدها بأربعة مكيفات جديدة ولها معونة شهرية ثابتة من جمعية خيرية محلية، وقبل سبعة أشهر تمَّ توظيف ابنتها عن طريقنا لأجل مساعدة الأسرة. والأهم أنَّ البيت الذي تسكنه تلك المرأة هو مُؤجر لها عن طريقنا، ولا علاقة لها بمبلغ الإيجار ولا بالمُؤجر صاحب البيت.

ذُهلت من هذه المعلومات والتي كانت تتعارض تمامًا مع كل كلمة قالتها لي تلك المرأة. لقد كذبت عليَّ كذبة قبيحة بشعة نتنة.

انحرجت كثيرًا من صديقتي المسؤولة، وشكرتها على كل ما يقومون به من جهد وعطاء، ودعوت لها بالخير والنماء.

وخرجت من مكتبها وأنا شبه مصدومة لأوَّل مرة في حياتي أكتشف أنَّ الفقراء يكذبون بهذه الصورة القبيحة النشاز.

تقول المتحدثة: كنت متيقنة بأنَّ الأغنياء يحتالون، لكن للأسف، الصدمة أنني اكتشفت أيضاً أنَّ الفقراء يكذبون!!!

وأختمُ.. ليس كل الفقراء يكذبون لكن كثيرٌ منهم يموتون وهم واقفون!!