قراءة سياسية للقاء ظفار التاريخي

 

د. عبدالله باحجاج

أخذ اللقاء الذي جمع عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- بعددٍ من شيوخ مُحافظة ظفار يوم الثلاثاء الماضي، توصيفات مُتعددة، وكلها تصب في الجوهر، لكن من الناحية الوظيفية التي تُؤطر العلاقة بين الحاكم والمحكومين، فإنَّ التوصيف السياسي للقاء من منظور علم الاجتماع السياسي، هو بمثابة تجديد العقد الاجتماعي بين السلطة السياسية الجديدة والمجتمع، ولهذا التجديد تواقيته الزمنية وتقاطع سياقاته السياسية، واستحقاقاته التنموية وشحناته السياسية التي سنرى آثارها في إحياء مشاريع جوهرية مُؤجلة.

ولم ننتظر طويلاً، فقد رأينا نتائج اللقاء في وضع حجر الأساس لمشروع المستشفى الجديد في ظفار، وكذلك زيارات مجموعة وزراء لها، وكذلك رأيناه في قوة زخم التضامن المؤسساتي لمُكافحة البعوضة الزاعجة؛ حيث تتعاضد الآن مع بلدية ظفار وزارتا الدفاع والصحة وبلدية مسقط بمعداتها وإمكانياتها في حملة وطنية ذات صبغة وطنية تستمر ما بين 4 إلى 6 أسابيع قابلة للزيادة، وسنرى الروح تدب في شرايين كل جامد أو مُؤجل، وفي قضايا كبرى مثل الباحثين عن عمل، ولن تقتصر على ظفار بل ستشمل كل المحافظات.

وهذا العقد الاجتماعي لايُمكننا أن نصفه بأنَّه جديد، وإنما هو متجدد، لأننا في إطار نهضة متجددة، حتى لو أخذت بعض المسارات طابع التغيير والتحول، فالعقد الاجتماعي هو واحد، لكن يتم تجديده من خلال العهود السياسية المُتعاقبة والتي تأخذ مسيرة التواصل الزمني والسياسي، وكل من دقق وأمعن الفكر في تحليل اللقاء التاريخي من المُقاربة السياسية، سيرى أن مفهوم التجديد مثل الصبغة التي لونت هذا اللقاء التاريخي.

وهو تاريخي، كونه الأول مع شيوخ ظفار بحكم السياقات والتاريخ، والأول على مستوى الجماعات المحلية في المحافظات، وهو يأتي بعد مضي 8 أشهر من حكم جلالته- أبقاه الله- مما بدأ المشهد معه، وكأنَّ النهضة المتجددة تُؤسس لمسارين متعاقبين بصورة منطقية وهندسية.

الأول: تطبيق فلسفة العهد الجديدة، وهي البناء المتواصل مع التجديد والتحديث للنهضة العمانية، فخلال الثمانية أشهر الماضية، عرفت معظم القطاعات الحيوية إصلاحات هيكلية، توجت بدمج وزارات وإلغاء أخرى، وتشكيل وزاري جديد.

ويوم الثلاثاء الماضي، بدأ المسار الثاني المُتعاقب؛ وهو القرب من المُواطنين، وتلمس احتياجاتهم بصورة مباشرة، بحيث يُمكننا القول أن جلالته ينطلق من ظفار لتدشين سياسة القرب، ليس كمفهوم جديد للسلطة، لكنه مُتجدد وذا خصوصية المؤسسة السلطانية الجديدة، كيف؟

الكيفية هنا، تتجلى في ما أظهرته المؤسسة السلطانية في المسارين من صاحبة الفعل والمبادرة والاقتراحات عكست قوتها الديناميكية، وجاءت للقاء ظفار بمشروع تنموي بادرت به، واحتوت مُعظم المبادرات الاجتماعية المتوقعة في اللقاء، وحولت لقاء ظفار إلى محطة أساسية لانطلاقة ثقافة التشاور للمؤسسة السلطانية، وفسح المجال أمام المجتمعات المحلية للمُساهمة باقتراحاتها في التنمية الجهوية للولايات، وهذه ستكون على ما يبدو منهجية عمل المؤسسة السلطانية في النهضة المُتجددة.

وهذا يذكرنا بقوة المؤسسة السلطانية في بواكيرها الأولى التي أسست النَّهضة العمانية على نفس المسارين، لكن الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في تزامن المسارين بالنسبة للنهضة الأولى، والتعاقب الزمني بالنسبة للنهضة المتجددة، ورغم ذلك، فهو تعاقب زمني قصير نسبيًا، ولكل نهضة مبرراتها الموضوعية، في الأولى، يبرر التزامن بين المسارين من انطلاقة بدايتها الصفرية، ومن طبيعة تأخر الدولة الشامل آنذاك. والثانية كونها تحمل شعار التجديد، فبدأت في تجديد وتحديث الهيكل المؤسسي للدولة، وتغيير وإعادة إنتاج نخب قديمة، ومؤخرا، انتقلت إلى تجديد العقد الاجتماعي من ظفار على أن يشمل تباعا محافظات البلاد الأخرى.

وتبرز ظفار الآن ضمن تلكم السياقات، بثقل الثالث والعشرين من يوليو عام 1970، التي منها انتصر الوطن على تحديات جيواستراتيجية- وجيوسياسية، داخلية وخارجية، كانت ظفار بحكم دورها في الأحداث الجيوسياسية "النشأة والحل" أول المباركين والداعمين للمغفور له السلطان المُؤسس- طيب الله ثراه-. والمتأمل للأحداث الجيوسياسية والجيواستراتيجية الإقليمية المعاصرة من على بوابة بلادنا الجنوبية، وتقاطع إكراهاتها مع تأسيس نهضتنا المتجددة، سيظهر له تكرار التحديات ذاتها بأوجه مُعاصرة.

صحيح التحديات المعاصرة مختلفة عن نظيرتها التاريخية، لكن السياقات تظهرها بهذا التلاقي الثنائي، مما جعل الظرفية السياسية تحتم إبراز ثقل هذا التراب الوطني ضمن هذا السياق التاريخي والمعاصر، كونه يمثل البلاد على إطلالة المحيط الهندي الذي أصبح التوجه العالمي إليه محط صراعات إقليمية ودولية متعاظمة، ومعها تبرز أهمية ميناء صلالة والمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، كمنافذ إستراتيجية لمستقبلنا الاقتصادي الجديد ومستقبل دور بلادنا الإقليمي والعالمي.

كل هذه الأحداث، تظهر أهمية التضامن المجتمعي والوحدة الترابية في العهد الجديد وقد ظهرت من على هذا التراب الوطني من خلال اللقاء التاريخي، وإذا ما أردنا استنطاقها بصوت مرتفع فإنِّها تؤكد، أنَّ الجغرافيا العُمانية ثابتة وغير متحركة بالعوامل الجيوسياسية، وأن الديموغرافيا (السكان) صلبة في ولاءاتها وانتماءاتها الوطنية، ومتمسكة بمحتواها الترابي الوطني، وهي من بين الخطوط الحمراء للمواطن والمجتمع والدولة.

هذا المشهد السياسي خرج بصورة تلقائية وطبيعية أثناء اللقاء، وقد وددنا لو كان تمثيل كل المكونات الاجتماعية قد تجسد فيه، وقد كانت هناك إمكانية لذلك رغم جائحة كورونا، لكن ذلك لم يحدث، الأهم أن كل من حضر هذا اللقاء مثَّل الكل، وعبَّر عن الكل بأفضل تعبير عن صلابة الولاء والانتماء للعهد الجديد، وهذا لا يعني عدم تصحيح الأخطاء المتكررة التي تقع دائماً في مثل هذه المناسبات، بل ينبغي الاحتكام للمعيارية المتساوية في الحقوق والواجبات من منطلق الوطنية التي تمنح الكل الحق في العدالة والمساواة التي يقرها النظام الأساسي للدولة خاصة في المادتين 9 و12.

ومهما يكن، فقد كانت النتائج السياسية لهذا اللقاء واضحة تمامًا، وهي، تجديد العقد الاجتماعي، وظهور المؤسسة السلطانية كحماية الوحدة الترابية، ومعززة لمقوماتها الصلبة في ظل الجغرافيا الإقليمية المتحركة، بدأت أدوارها من ظفار بسبب بعدين تاريخي ومعاصر، وستنطلق تباعاً على محافظات البلاد الأخرى.

لكن، هل وصلت رسائل المؤسسة السلطانية إلى الفاعلين داخل نظام المحافظات ومجلس المحافظين؟ إذ إن أدوارهم ينبغي أن تنطلق من هذا الفهم السياسي للمؤسسة السلطانية للمرحلة الوطنية الراهنة، وآفاقها المُقبلة.

وتتحدد الآن مسؤوليات كل محافظ داخل محافظته، وكل والٍ داخل ولايته من منطلقات ودواعي هذا الفهم، وهو دور البُعد التنموي في تعزيز الوحدة الترابية للبلاد، كما أن ذلك يحتم تمكين المجالس المنتخبة من صلاحيات حقيقية ونافذة مجلس الشورى والمجالس البلدية، حتى تتكامل أدوار المؤسسات الدستورية في تعزيز الوحدة الترابية للوطن... فهل سنشهد قريباً مُبادرات سياسية في مجال تعزيز دور المجالس المُنتخبة؟ إنَّ النهضة مُتجددة، وعلينا توقع التجديد في كل شيء، فعصر الاستفراد بصناعة القرار وتطبيقه قد ولى.