علي بن سالم كفيتان
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع تعاظم الدور التركي في الشرق الأوسط فذلك لن يُغير من المُعادلة السياسية في المنطقة شيئاً يذكر، فقد بات الأتراك بدولتهم الحديثة واقتصادهم المُتنامي وطموحاتهم العثمانية لاعباً أساسياً في المنطقة، قادرين على حسم الحروب ووقف الأطماع البينية في هذه البقعة الملتهبة من العالم.
فالأتراك يمتلكون تصنيعاً حربيًا متطورًا وسياسة هادئة متزنة ويرتكزون على العاطفة الإسلامية التي تهيج شعور أكثر من مليار نسمة حول العالم، وبلا شك استفادت من تراجع دول عربية وإسلامية أخرى عن نهجها الريادي وتفرغها لشأنها الداخلي أو دخولها في مُغامرات وتحالفات غير موفقة.
أردوغان اليوم يُمثل الطموح النائم للعالم الإسلامي بأسره؛ فالدول الأخرى التي حاولت بعث الروح في ذلك الجسد كانت إما دولاً صغيرة أو ذات نفوذ محدود رغم نجاح تجاربها الاقتصادية وانضمامها لنادي الكبار، فالرجل سياسي مُتمرس قلب خلافه مع الروس إلى صداقة بعد إسقاط إحدى طائرات بوتين عندما حاولت الدخول للأراضي التُركية ومثل ما نقول نحن العرب "ما تكون صداقة إلا بعد خصومة"، واستطاع إيجاد تسوية معهم في الجبهة السورية التي استقرت نسبياً، واليوم ينهج نفس الخط في ليبيا؛ فرغم دعم الدب الروسي للقائد العسكري خليفة حفتر بات اليوم يُراجع حساباته لإيجاد أرضية تفاهم مع الأتراك الداعمين للحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، التي باتت تفرض سيطرتها تدريجياً على أجزاء من التراب الليبي، بينما نحن العرب نبحث عن اجتماع عبر وسائط الاتصال الإلكترونية ندين من خلاله الدعم التركي، ونستغيث بالرجل الأمريكي المشغول عنَّا بمصائبه الداخلية المتمثلة في تنامي العنصرية وموجات كورونا والانتخابات الرئاسية.
تتصاعد اليوم الكثير من الأصوات في اليمن طالبة الغوث التركي لإعادة ترتيب هذا الوطن المُمزق، وحسب توقعاتنا فإنَّ أردوغان لن يتردد بعد ثبات الوضع في ليبيا، وبلا شك سيجد الوسيلة الناعمة للدخول إلى قلوب كل اليمنيين، فالرجل يمتلك قدرة عالية من الذكاء العاطفي عكس الكثير من القادة العرب المشغولين برسم الاستراتيجيات البعيدة المدى لأوطان باتت مُهددة في بقائها على الخارطة العالمية، فما أكثر الاستراتيجيات وما أقل النتائج!
أوجد الأتراك لأنفسهم مساحات دبلوماسية واسعة مع جمهورية إيران الإسلامية ومع باكستان وماليزيا وإندونيسيا واستطاعوا استقطاب قطر، ولهذا فهم يملكون قوة تأثير هائلة في العالم الإسلامي؛ فهذه الدول هي الأكثر استقرارًا من الناحية الاقتصادية، إذا استثنينا إيران التي ترزح تحت وطأة العقوبات الأمريكية، وتمتلك تلك الدول مستقبلها السياسي لاعتمادها على شعوبها، وهنا تكمن بداية المعادلة التي يدور حولها أردوغان بدهاء، في ظل اعتماد العرب على لغة خشبية قديمة وحليف متهالك لم يعد يكترث لهم إلا من ناحية واحدة فقط إلا وهي المزيد من مليارات الدولارات التي تغطي عجزه المالي، مُقابل إفقار شعوب النفط وإدخالهم في نفق الضرائب وخسران الوظائف؛ ففي الوقت الذي تُوفر فيه مليارات العرب ملايين الوظائف في أمريكا، يتم تسريح الآلاف من الموظفين في بلداننا العربية الغنية فيالها من مُعادلة مقلوبة!
نحن هنا لا نُهلل لتركيا الطامحة للعب دور إقليمي ودولي، بل نحاول قراءة الموقف بشكل حيادي، فلن يعيب تركيا إذا وصفناها بالعثمانية فالخلافة العثمانية حملت الكثير من مشاعل النور والعلم لمختلف بقاع الدنيا، وبلا شك لها هفوات مثلها مثل أي حقبة إسلامية كانت قبلها، لكن الشعور الجمعي الإسلامي بات ينتظر بلوغ أردوغان لقمة المجد الذي ينشده، ونجاحه على مستوى وطنه تركيا يُعد شاهد عيان على الإدارة الحكيمة التي تُؤهله للعب أدوار إقليمية بارزة مُرحب بها في مختلف الدول العربية والإسلامية على مستوى الشعوب طبعاً، وليس النخب السياسية، فلم يعد أردوغان عثمانياً ولا إخوانياً كما يحلو للبعض تسميته هذه الأيام، بل بات زعيماً عالمياً استطاع ترويض الدب الروسي والصقر الأمريكي معاً، ولديه ملفات تجعل أوروبا العجوز لا تذهب بعيداً مهما علت تصريحات باريس وبرلين.