علي بن مسعود المعشني
عجبت كثيرًا من الذين يهرولون خلف التطبيع في زمن الانتصارات والمقاومة وانحسار العدو واضمحلاله، وعجبت كذلك من الذين يخلطون ما بين اليهود واليهودية، والحركة الصهيونية، في تعريف صراعنا العربي مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويمتشقون التاريخ العربي ليبرهنوا أحقية العرب اليهود بأن يكونوا شركاء لنا في التراب والمصير.
وعجبت أكثر ممن بلغ بهم هوس التطبيع الى جعله بمصاف الترياق للأمة العربية والبشرية جمعاء، وبلغ بهم تسويقه استحضار "مظلومية" اليهود عبر التاريخ من بابل الى الحروب العربية معهم، مرورًا بالمحرقة النازية "الهولوكوست". ولم تتوقف رقة هؤلاء وإشفاقهم على اليهود عند هذا، بل عرجوا على القرآن الكريم ونصوصه والتي وصفوها بـ"التحريض" على كراهية اليهود كقوله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
مجمل هذا الكلام يعود بي شخصيًا الى الاقتناع بأن حامليه ومروجيه لايقرأون التاريخ ليعلموا ان أول صراع لليهود كان مع الله عز وجل، وليس مع أي مكون بشري أو دولة أو جغرافيا، ومنها أمتد الى حلقات لا تنتهي مع عباد الله. والقرآن الكريم به آيات خاصة وآيات عامة وبه ناسخ ومنسوخ وقطعي الدلالة وظني الدلالة وأسباب نزول لكل آية، وبالتالي فالاستعانة بالقرآن كحاطب ليلٍ لا ينفع، خاصة إذا كان هذا التجييش لتكريس باطل بحجم التطبيع.
للمرة المليون أقول إن صراعنا نحن العرب المعاصرين اليوم مع الحركة الصهيونية التي يحتل طيف منها أرض فلسطين، ولا علاقة لنا بالصراع مع اليهود كطائفة ولا اليهودية كديانة، والحضارة العربية الاسلامية مليئة بنماذج تآخي بين العرب المسلمين وشركاؤهم من عرب يهود ونصارى وغير العرب كذلك. لذا نقول ونكرر إن العداء والصراع مع من اغتصبوا الحق وأخرجونا من ديارنا- وهو حق مقدس- لا يقبل القسمة على اثنين ولا اجتهاد معه. فالعرب اليهود ما زال منهم أقوام كثيرة كمواطنين في المغرب واليمن ولم يمسسهم أحد بسوء، والذين هاجروا الى فلسطين المحتلة من العرب اليهود كان أغلبهم تحت وطأة ومغريات وترهيب الوكالة اليهودية سيئة السمعة، والتي جيشت المال والتضليل لتهجيرهم الى أرض الميعاد فلسطين!! نحن
في الوطن العربي- لمن يقرأ التاريخ- مررنا باحتلالات جماعية وفردية؛ أي أقاليم وأقطار من حملات الفرنجة والتي تسمى خطأً بالحروب الصليبية، والفرس والبرتغاليين والإنجليز والفرنسيين والطليان والعثمانيين، وفوق جميع هذه المرارات ها نحن نقيم علاقات رسمية وشعبية ونطبع معهم جميعًا رغم توثيق جميع مفاصل تاريخ كل منهم وما جنوه على وطننا العربي، ولم نسمع عن التنكيل أو المحارق أو التعامل العنصري بحق النصارى العرب نكاية بما فعله الفرنجة بنا، ولا مع الفرس ولا البرتغاليين ولا الانجليز أو الفرنسيين رغم ما جنته أم الكبائر- إنجلترا- علينا من تمزيق وشتات وسايكس بيكو ووعد بلفور والكتاب الأبيض، ولم نحاسب فرنسا على الهولوكوست التي ارتكبتها في الجزائر وقتلها 10 ملايين جزائري طيلة احتلالها للجزائر بين عامي 1832 و1962، ناهيك عن تجاربها للقنابل النووية وقنابل البلوتونيوم المُشع بمنطقة رقان أقصى جنوب الجزائر عامي 1960 و1961، والتي كان فيها أسرى الثورة الجزائرية كفئران تجارب!! بخلاف الطوابع البريدية الفرنسية التي تحمل رؤوس مقطوعة لجزائريين ومغاربة لتجوب العالم للتعريف بالمدنية الفرنسية والثقافة الفرنسية أرض ما تسمى بثورة القيم!!
وأنصح رقاق المشاعر الوردية بقراءة كتاب "الحرب القذرة" للجنرال الفرنسي ديفيد جالولا؛ وهو بالمناسبة يهودي فرنسي من مواليد صفاقس بتونس، يتحدث فيه بكل فخر وحمية عن "بطولات" فرنسا في حروب الهند الصينية والمغرب العربي!! وهي ليست جرائم حرب؛ فحسب بل أفعال شيطانية لم يسبقهم اليها الشيطان نفسه.
لهذا نقول ونكرر للمطبعين: لا تعبثوا بالوعي ولا تزيفوا التاريخ ولا تفسروا النص القرآني على مقاس تطبيعكم البائس، فتجعلونه غفور رحيم مع الصهاينة، وشديد العقاب بينكم!! ولن تفلح تجارتكم بالنيل من العرب والعروبة بشيء؛ فالمغتصب والمحتل سيبقيان كذلك في جميع العقول والثقافات والاديان، وكذلك المطالبة بالحقوق، فالشرف والضمائر الحية يحملها كل انسان سَوِي بغض النظر عن دينه وجنسه وجغرافيته. ولو أن الكيان الصهيوني أقيم ومُكن في أستراليا أو أوغندا أو اقتطعت له أي جغرافية من أوروبا أو أمريكا، فسنعترف به ونطبع معه كأي كيان سياسي أستنبت أو بُني على عجل.
قبل اللقاء.. على "الحليف" الأمريكي أن يعلم بأن ما قبل عام 2011 ليس كما بعده، فرغم مرارات الربيع العبري على العديد من الاقطار والشعوب العربية، إلا أن الحاجز النفسي للشعوب اليوم لم يعد كما كان قبل الربيع، وهذا من باب رب ضارة نافعة، وبالتالي فضغوطهم على النظام الرسمي العربي بالتطبيع وقبول المنكرات السياسية سيعود عليهم بالوبال والكوارث.
وبالشكر تدوم النعم..