د. عبدالله باحجاج
الخُطوة السياسية التالية بعد تشكيل أول حكومة في العهد السياسي الجديد، تكمن في التساؤل التالي: كيف نجعل كل فاعل حكومي وعمومي نزيهاً؟ وهناك عدة اعتبارات تجعلنا نعتبر النزاهة من أولويات المرحلة السياسية، من أبرزها، أنها- أي النزاهة- قد وردت ضمن الوعود السياسية في ثاني خطاب لعاهل البلاد المُفدى- حفظه الله- ضمن مجموعة وعود، تحقق بعضها مثل إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، واختيار شخصيات للحكومة لأول مرة، وأخرى لها تاريخ عائلي عميق في منظومة المصالح البنيوية في البلاد، مما عمّق صعوبة التفرقة بين المصلحتين "العامة والخاصة"، وهي قضية تُثير الهواجس الاجتماعية القديمة.
ويصبح التساؤل معها، كيف نُحقق النزاهة في عهد النهضة المتجددة؟ وقد بحثنا هذه المسألة في بعض النظم المُعاصرة، وتفحصنا بعض أفكار المصلحين الكبار، ودرسنا ماضينا مع قضايا الفساد وتاريخ الأداء الحكومي، واستخلصنا من جميعها نتيجة واحدة، مفادها، أنَّ تحقيق نزاهة كل فاعل "حكومي وعمومي وخاص" تكمن في العلم اليقيني بأنَّ القوانين لن تفلتهم، وأنها ستطبق عليهم، وألا أحد فوق القانون مهما كانت منزلته وعلاقته العمودية، وأن ضمانة الحقوق والحريات تكمن في القضاء العادل والمُستقل.
لكن.. كيف يمكن تحقيق متطلبات النزاهة والشفافية؟ هذا يختلف باختلاف النظم، وليست العبرة هنا بالأشكال وإنما بالنجاعة والتطبيق، ويشغلنا الآن كيفية إيجاد بيئة تشريعية ومؤسساتية "بإجراءاتها وآلياتها" تحول دون استفادة المسؤولين من مواقعهم وتردع كل مستغل لنفوذه، وتكشف التجاوزات في الوقت المُناسب. وتتوفر لدينا الآن بعض متطلبات بيئة النزاهة والشفافية، وأخرى يستوجب إقامتها عاجلاً، لذلك ننتظر من جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة حمل كل أعضاء الحكومة- وليس مجلس الوزراء فقط- على تقديم إقراراتهم المالية قبل عام 2020، وذلك حتى ننطلق في تطبيق رؤية "عُمان 2040" بأهم عنوان وهو "في نهضتنا المُتجددة، لا مكان للمستفيد من موقع، ولا لمستغل نفوذ لمصالحه أو أقاربه أو بقية محيطه النفعي".
ولا يعني إقرار الذمة المالية التشكيك أو التخوين في النخب الحكومية الجديدة أبدًا، لكنه إجراء وقائي، وأنه من بين أهم مبادئ تحقيق النزاهة والشفافية. وكل من يمتنع عن الإقرار بذمته المالية، فعليه الجلوس في بيته، ولا يستأهل تولي مسؤولية خدمة الوطن والمواطن في النهضة المُتجددة. لذلك فهو إجراء لازم، ويكون منذ بداية تشريف وتكليف المسؤول، وذلك حتى يسهل لأجهزة الرقابة المختلفة والمستقلة بالذات، مساءلة الوزير والوكيل ومن في مستواهما: من أين لكم هذا؟
ولا ينبغي أن تتم إقرارات الذمة المالية سرية أو داخلية بين المسؤول وجهاز الرقابة المالية والإدارية، وإنما ينبغي أن تأخذ زخمها الإعلامي- كتوجه- حتى يكون المجتمع في قلب هذا التحول وشفافيته، على أن تكون نسخة من الإقرارات لدى مجلس الشورى لدواعي تكامل الرقابتين "الحكومية والمُستقلة"، وهنا نقترح إنشاء لجنة ضمن لجان مجلس الشورى باسم "النزاهة والشفافية" تكون مهمتها المتابعة والرصد، وتعين أعضاء مجلس الشورى في استخدامهم الأدوات البرلمانية خاصة الاستجواب وطلب المُناقشة ولجنة تقصي الحقائق.
وهذا كله سيكون مشروطاً بتحرير صلاحيات مجلس الشورى من القيود التي تفرغه من مضامين صلاحياته الرقابية والتشريعية، ومن بينها أداة الاستجواب، بحيث تفعل شقها السياسي، فكل من يثبت عليه التجاوزات الدامغة، فلابد أن يرحل وفق إليه تشاركية مع السلطة السياسية على أن تكون لأداة الاستجواب الفاعلية الحاسمة، لأنها المنشئة له والكاشفة عنه، وهذا توجه لو عرف النور، وهو ما تحتاجه النهضة المتجددة، تكون بلادنا قد انتقلت خطوات متقدمة نحو المساءلة والمحاسبة المستقلة التي سيعمل لها كل فاعل عام وخاص كل الحسابات تجنباً للاستجواب.
وكذلك سيكون مشروطا بتطوير مجلس الدولة ضمن ثنائية متناغمة وتكاملية مع مجلس الشورى، يعبر- أي مجلس الدولة- عن عقل الدولة "القيمية والأخلاقية والمصلحية" للمكونات الثلاثة "القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأهلي"، ويكون شغله الشاغل إقرار دستور للأخلاق والمبادئ الحاكمة للنهضة المُتجددة، ويحرص في مشاركته القوانين والخطط الاقتصادية مع مجلس الشورى، على التأكد من تضمين المصلحة الثلاثية فيها، على أن يتم اختيار الأعضاء وفق معايير محددة ومن الخبرات والكفاءات القادرة على تغليب المصلحة الثلاثية، والتفكير بتجرد وعقلانية من المنظور الثلاثي.
ونترك مجلس الشورى لنتائج الانتخابات الحُرة واتجاهاتها الاجتماعية والفكرية مهما تباينت ودون أية تدخلات وبعيدًا عن أية تصنيفات قديمة، لأننا في إطار نهضة متجددة في الأفكار وفي الأشخاص وفي السياسات والاستراتيجيات، ولأنَّ الكل سيكون أداؤه محكوماً بالإطارين الدستوري والقانوني، فلا نتوجس من بعض الأفكار، بل يجب أن نترك لها الحركة والفعل للاستفادة من خبراتها المختلفة في إطار المواطنة التي تستوعب التعدد والتنوع وتطير بجناحي الواجب أولاً والحق تابعه على عكس المرحلة السابقة التي كانت الحقوق مُقدمة على الواجبات، بل وغير مطالب بها.
ومن المُؤكد أنَّه ستثار إشكالية تنازع الاختصاص وتضارب القوانين بين مُؤسسات الدولة الدستورية، وكذلك شرعية القوانين والقرارات بصورة غير مسبوقة خلال العهد الجديد، من هنا تبرز الأولوية كذلك في إقامة هيئة قضائية مستقلة بذاتها، تسمى بالمحكمة الدستورية للدفاع عن دستورية القوانين والقرارات واللوائح ومُراقبة تطبيق القوانين مع مواد الدستور الذي يمثله هنا النظام الأساسي للدولة، فقد لاحظنا بعض القرارات واللوائح وحتى القوانين تعارض مواد أساسية في النظام الأساسي للدولة أو تنتقص من مساحتها السياسية.
لذلك فإنَّ الإعلاء من شأن النظام الأساسي للدولة وتطويره، وجعله مصدرا للشرعية للحاكمين والمحكومين، أهم ما ينبغي أن تصطبغ به النهضة العمانية المتجددة، وهذا لن يتأتى إلا بوجود هيئة قضائية عُليا مستقلة، وهي المحكمة الدستورية، تقر أو تُبطل قوانين أو قرارات أو لوائح السلطات الثلاث "مجلس الوزراء ومجلس الشورى والقضاء" لمخالفتها النظام الأساسي، وتكون مرجعية الخلاف بينها، وقراراتها ملزمة للكل.
وبذلك نضمن أن يكون كل الفاعلين نزيهين، وأن القانون سيتدخل في الوقت المُناسب، وأن الناجح سيظل في وظيفته، والفاشل سيرحل، وهذه طبيعة البيئة الضامنة لنجاح رؤية "عمان 2040"، وهو ما كانت تفتقره "رؤية 2020" التي أغنت أفرادا، وأزمت أوضاع البلاد حتى الآن، فتلك البيئة ستضمن عدم تسخير الوزير أو الوكيل الوزارة لتحقيق منافعهما أو منافع التجار على حساب المجتمع، والشكل الهندسي للتشكيل الوزاري الجديد فيه من مثل تلكم المُؤشرات، لذلك الضمانة الأكيدة، هي النزاهة والشفافية وفق ما أوضحناه من إطار حاكم لهما.