أنيسة الهوتية
وهذه هي حال كل إنسان يعيش على هذه الأرض التي هي دار اختبار وليست دار استقرار، وبطبيعة الإنسان حين يكون مُقدِماً على اختبارٍ مُعين تراه متوتراً، مُضطرباً، يُعاني مُختلف أنواع الضغوط النفسية والأرق، والهم، وانعدام الشهية، وعدم القدرة على الاستمتاع بأي شيء حوله، والدخول في مرحلة اكتئاب زمني إذا كان ضعيفا، أو أن يكون بنفسية مُحارب إذا كان قويًّا، وفي كلا الحالتين يبقى عقله الباطن يُقنعه بأنها فترة مؤقتة وستنتهي قريبا، فيُطاوعه إن كان إيجابيًّا، ويدخل إلى تلك الحرب بكافة عُدته وعتاده وهو مُقتنع بأنه لن يخرج بخسارة وإن خسر المعركة.
ونفسيَّة المحارب تلك ضرورية جدًّا لتقبل كل أنواع الخسائر التي تصيبنا من سهام القدر؛ لأن لولاها لكانت ستُردينا قَتلى ونحن أحياء! وأن تكون ميتاً وأنت حي وسط معركة الحياة واختبارات القدر، فهذا يعني أنك جندي جريح، وستكون عالة على الجنود الشجعان، ولربما ستتسبب بموت أحد أولئك الشجعان المهم وجودهم في المعركة لحماية الضعفاء، وسيفقدونه من تلك الساحة فقط لأنه كان يحاول إنقاذ حياتك التي أنت بنفسك لا تجد فيها قيمة لك!
وبين المثاليْن، هُناك مثال ثالث، وهو من لا يثمن الحياة الآخرة ولا يعمل لها، لكنه بذات الوقت لا يهتم بخوض الاختبارات الدنيوية أيضا، ويعيش بعشوائية وغوغائية مُسبِّبا الفوضى هنا وهناك، دون أن يكترث لشيء، وهؤلاء أخطر في ساحة المعركة من قنابل العدو ورصاصاتهم المنطلقة باستهداف نحونا.
والمثال الرابع هم من باعو أنفسهم للدين، ولم يبقَ لديهم ما يخسروه في الدنيا، فتراهم أشداء أقوياء في تلك الساحة لا يخشون الموت، والمرض، والجوع، والعطش والفقر، والألم، ولا يهولون على أنفسهم فقد الأحباب والأصحاب.. لا شيء أبداً يخيفهم أو يرعبهم أو يكسرهم في هذه الحياة، لأنهم مؤمنون بأن من خلقهم سيرعاهم، وأن كل أمورهم بيد الله وهو الخير سبحانه، ولا يأتي من الخير إلا الخير في أي صورة كان، وأن ملجأهم وأمنهم هو قربهم منه ونيل رضاه سبحانه وتعالى، تراهم هائمين في الجلال الإلهي حبًّا وعشقاً وغراماً لا يخشون لومة لائم سواه جل وعلا، وهؤلاء هم أولياء الله تعالى في أرضه يحبهم الله لحبهم له، ويذكرهم في مجلس ملائكته؛ فهم مستغنون عن ذكرهم في مجالس الملوك والسلاطين وغيرهم من أصحاب الجاه الدنيوي، درجاتهم عند ربهم أعلى مما هي عليها في الدنيا، ولأنهم أحباب الله فلن يرضى الله لهم ظُلماً ولا قهراً أبداً.
ومن الحكمة، ألا نرمي بكلمة سيئة على أحد مهما بدا لنا بائساً، فقيراً، محتاجاً، جاهلاً، أُمياً، ولعل تلك الكلمة لن تؤذيه لرضا نفسه وقوة قلبه وصبره ويعفو ويصفح ولا يجادل، لكنها ستُرفع إلى الله، ولن يرضى عنها له؛ لأنه ببساطة شديدة أقرب منه سبحانه عنا.
وألا نستهزئ ونعلق بسوء على أفعال وقرارات "فلان وفلنتان"؛ فإن كانت لدينا نصيحة نافعة لهم نقولها بخير وإن لم يكن فلنصمت، ولا ننسى أنَّ الأقدار تسبقها الأسباب ما ظهر منها وما بطن، ولا يغير القدر شيء إلا الدعاء، وليس كل دعاء مستجابا! فللدعاء المستجاب آداب ومنها الصبر، ومن حكم الله تعالى تأجيل بعض الاستجابات لأمر لا يعلمه سواه، فيأخذ الظالم بعد حين.
ففي هذه الدنيا العجيبة، لربما نرى البعض ظالماً كما رأى سيدنا موسى في الخضر -عليهما السلام- وندعو عليه، لكنه يكون العكس!
ونرى البعض مُبهِراً بأعماله الخيِّرة فندعو له، لكنه ليس سوى منافق لنفسه ظاهره صالح وباطنه خبيث!
ومن هذا المبدأ علينا أن نصبر على ما لم نحط به خبرا.