تطوير التعليم

 

د. صالح الفهدي

 

مستقبل الوطن يصنعه التعليم ولا شيءَ غيره، إنَّما التعليمُ وحدهُ صناعة تحتاجُ إلى رؤيةٍ متجدِّدةٍ، وتطويرٍ مستمر. ما أحوجنا إلى تطوير التعليم ليتوائم مع المتغيرات التي يشهدها المستقبل الذي يتشكَّلُ الآن في بواكير الثورة الصناعية الرابعة، أو ثورة الذكاء الاصطناعي.

نحتاج أن نطوِّر التعليم لأن العقول التي يحتاج لها هذا المستقبل النوعي بحاجة هي الأُخرى إلى بناءٍ في طبيعة قدراتها، ووعيها، ونظرتها، وطرق تفكيرها، وقد أشرتُ في سلسلة مقالات لي بعنوان "آن الأوان لنغيِّر مفاهيمنا عن التعليم" إلى الكثير من مقوِّمات تطوير التعليم، أو تغييره.

لا يمكننا أن نمضي قُدماً على منهجية تقادم عليها الزمان، في حين يتغيَّرُ كل شيءٍ حولنا، دون أن يتغيَّر التعليم، لهذا قيل: كل شيءٍ تغيَّر إلاَّ الطاولة والكرسي في الفصل الدراسي، في إشارة رمزية إلى عدم ملامسة التغيير للتعليم، ولستُ هنا في معرضِ الإسهاب عن ماهية الحاجة للتطوير، أو اتجاهات التطوير في التعليم فقد تحدثت عنها في السلسلة المذكورة، إنما هي دعوةٌ متكررة لعلها تلامس آذان صنَّاع القرار في العهد الجديد فيستجبوا لها بإرادةٍ ورؤية واضحَين حازمَين، إذ لا يمكن لوطنٍ أن يُبنى أو يتطوَّر، ولا يُمكن لرؤيةٍ مستقبلية أن تنفَّذ دون أن يؤسس لذلك التعليم المتوائم مع المتغيرات والمستجدات التي تحدثُ في العالم.

إن ثمَّةَ مفاهيم آن لها أن تتغير، فالأذكياء ليسوا بالضرورة هم الذين يحرزون أعلى الدرجات، فقد يكون من بين الأذكياء من لا يستطيع حفظ المعلومات والنظريات والتعريفات فهذه ليست علامة ذكاء وإنما قدرة حفظ، وليس حملة الشهادات الجامعية يعني أنهم الأنسب للوظائف، فقد يكونوا حملة "أوراق" وليس "قدرات"، وليس كل من تخرَّج في مدرسته، أو كليته، أو جامعته، قد تمتَّع ببناءِ شخصية متكاملة من جميع النواحي، فقد يتخرَّجُ أصحاب الثالوث المظلم"Dark Triad"  النرجسية والميكيافيلية والاعتلال النفسي ويحملون الشهادات، وقد تُكشف أو لا تكشف هذه الأمراض النفسية فيهم، ولربما يعتلون أرقى المناصب في السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية، دون اكتراث من المؤسسات التعليمية أو الاجتماعية أو العملية بفحص هؤلاءِ وإجراء الاختبارات اللازمة لهم، وأدلل على ذلك بأنَّ رئيس قسم للإرشاد النفسي في إحدى الجامعات أبلغني بأنَّ كثيراً ممن يدرس في هذه التخصصات مرضى نفسيون، دون اكتراث من الجامعة لهم إذ همَّها الأول هو المادة، وهؤلاء لا شك سيصبحون "مرشدون نفسيون" وهم في الأصل "مرضى نفسيُّون"..!.

ومثل هؤلاءِ هناك من (قد) يتبوأ مناصبَ مختلفة وهم مصابون بأمراض الثالوث المُظلم التي ذكرتها، فتظهر عليهم في أخلاقياتهم، وتعاملاتهم، وقراراتهم لكن الناس يؤولونها على أنها غرور السلطة، غير أنَّ الحقيقة هي أنَّ السلطة قد منحت أصحاب الثالوث المظلم الأريحية في التصرف، والمساحات الواسعة في إظهار أقنعتها المخفية أكثر من السابق.

هذا يدعونا إلى القول بأنَّ هناك تفاصيل دقيقة في التعليم لابد أن تؤخذ في عين الاعتبار لأنَّ لها أثر على مستقبل الأوطان، وعلى تسريع أو إبطاء التنمية فيها، وهذه لا تخفى على المختصين الذي بإمكانهم تشخيصها، وتحديدها، ثم إعادة وضع القوانين المُتعلقة بها، ورسم مسارات معينة لها.

إننا لا يُمكن أن نقود القطار القديم في السكَّة القديمة للتعليم، فالقطار لابد أن يتغيَّر، والسكَّة لابد أن تتغيَّر، إذ القطار قد أصبحَ عند اليابانيين هو " "القطار الرصاصة" Bullet Trains" وسينطلق بعد عشرة أعوامٍ من الآن، والقطار عند سبيس إكس space x قد أمسى قطاراً فضائيا شكَّله 60 قمراً صناعياً لاتصالات الإنترنت فائقة السرعة لمشروع أُطلق عليه"ستارلينك"، والقطار عند الصينيين هو ذلك الذي يطوِّق العالم في "حزام واحد - طريق واحد" لهدفِ تطوير وإنشاء طرق تجارية وممرات اقتصادية تربط أكثر من 60 بلدا، والقطار عند شركة «فيرجن هايبرلوب ون» هو الوسيلة الأكثر كفاءة في استهلاك الوقود بنسبة 50% من القطارات فائقة السرعة، وبمقدار 10 مرات مقارنة بالتنقل جواً.

إذن تغيرت القطارات (في لفظها المجازي) ولم تعد هي ذاتها التي لا زلنا نستعملها كقطارات للتعليم، تخرِّجُ لنا الجميع سواء كانوا أذكياء أو أغبياء، المهم أن ينالوا شهادات أو مُعدلات عالية، ولا يخفى عن بعض المتخصصين في التعليم أن بعض النتائج لا تميِّز بين أصحاب الميزات المختلفة، والذكاءات المتفاوتة، حيث إننا جعلنا الاختبارات الورقية هي الحد الفاصل بين الذكي (الذي يُحرز أعلى درجة وهي غير صحيح) والأقل ذكاء (الذي يحرز أدنى درجة وهذا أيضاً غير صحيح).

إنني أدعو هنا إلى تأسيس مجلس عالي لأُمناء التعليم يتكوَّن من أصحاب الخبرات في التعليم والاقتصاد والعلوم النفسية والاجتماعية والرؤى المستقبلية والأخلاقيات ليرسموا اتجاهات التعليم التي يجب أن تسلكها أجيال الوطن حيث تقوم الوزارة المُختصة بعد ذلك بتنفيذها.

أرجو أن يكون "تطوير التعليم" هو الأساس الذي يصدِّره صناع القرار أجنداتهم العملية، ليتوافق ذلك مع جهودهم التي وضعوها للرؤى المستقبلية، وليكفلوا تحقيق النتائج التي تطلعوا إلى إنجازها.