علي بن مسعود المعشني
التطبيع كمصطلح لغوي معناه عودة الأمور إلى طبيعتها ونصابها، والسلام معناه إحلال السلام بين طرفين متحاربين، والاستسلام معناه خضوع طرف لآخر والتسليم بقوته وانتصاره وإقرارًا من المهزوم بضعفه، ووقف إطلاق النار معناه قبول طرفي حربٍ بوقف العمليات القتالية بصورة دائمة أو مؤقتة، بغض النظر عن تفوق أحدهما أو تكافؤ القوة بينهما.
للمصطلحات أعلاه معانٍ لغوية ومدلولات قانونية وسياسية بعضها قديم وبعضها حديث وبعضها الآخر مُستحدث.
وبما أن الحديث هنا عن التطبيع كمصطلح شاع استخدامه مؤخرًا بقوة في الخطابين السياسي والإعلامي العربي والدولي لتسويق ما يُسمى بالسلام مع كيان العدو، فسينحصر الحديث عنه كمصطلح ووظيفة.
أولًا.. وقبل الخوض في أية تفاصيل، لا يمكن لعاقل أن يدعو لخاتمة الصراع العربي الصهيوني بالتطبيع، وهو بكامل قواه العقلية والنفسية، على اعتبار أن قضية فلسطين ليست قضية عاطفية، وفي المقابل ليست قضية مرهونة بوهن أو قوة أو عمر النظام الرسمي العربي، ولا حتى بظروف ورغبات وأهواء المطبعين من الفلسطينيين أنفسهم ومن أي موقع أو فئة كانوا.
فالصراع بين حق وباطل وبين مغتصب وصاحب حق، وبين عصابات طارئة على التاريخ والسياسة والقانون والأخلاق مُكنت من أرض لا يملكونها وكان منهم مواطنين وعمال بها حين كانت تعرف بحكومة فلسطين وباعتراف منهم. من هنا فإن الكيان الصهيوني ليس احتلالا استعماريًا، كما عرف العالم في حقب من التاريخ؛ حيث تحتل دولة أو إمبراطورية أخرى بحكم الأطماع وفائض القوة، ويمكن للضحية المقاومة والمطالبة بالاستقلال، وفق شروط قد تكون مجحفة أحيانًا بحكم الظروف الموضوعية وتفاوت منسوب القوة، فقد يشترِط المحتل نظير خروجه إقامة قواعد عسكرية أو الحصول على نصيب من الثروة أو نفوذ سياسي أو اقتطاع أراضٍ، وربما شيء من كل هذا، وقد تكون هذه الاتفاقيات قطعية ونهائية أو تراجع وتجدد بين زمن وآخر، أو تكون محددة بزمن معلوم.
الأمثلة هنا لا حصر لها مثل المستعمرات البريطانية والفرنسية والبرتغالية والهولندية والإسبانية في القارات الثلاثة، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
التطبيع توصيف لحالة غير مسبوقة في القانون الدولي ولا قواعد السياسة وهو إقرار الضحية للجلاد بحقه في السرقة الموصوفة وإسباغ الشرعية على سرقته، والإقرار له بأحقيته في ذلك وبراءته من جرائمه!! والكيان الصهيوني كيان لا يمكن توصيفه محتلا أو مستعمرا، فهو لم يكن دولة ولا إمبراطورية، بل ولم يكن حتى جغرافيا بعينها، حتى يمكن التفاوض معه وفق قواعد القانون والسياسة وإبرام اتفاقيات ومعاهدات من أي نوع معه، فهذا السلوك لا يُعد مشينًا ومستهجنًا فحسب؛ بل إساءةً للقيم والأخلاق والقانون والسياسة معًا، وتطاول فج على قيمها.
أما وظيفة التطبيع والتي ستوصلنا بالنتيجة إلى ماهيته فهي وضع الأقطار العربية برمتها ودون استثناء تحت هيمنة وراية وقيادة وسيطرة الكيان الصهيوني، وتنازل القوى الغربية- وعلى رأسها أمريكا- عن هيمنتها ووجودها لصالح هذا الكيان بعد تمكينه بالتطبيع ومده بكل أسباب القوة والهيمنة والتفوق.
وحين يتساءل "عبقري" عن مصدر هذا التحليل نقول له إن كافة الحروب والمعارك والدمار والخراب والمؤامرات على الأمة العربية لم تكن لو لم يكن في قلبها خنجر مسموم يسمى بـ"إسرائيل"، فوجود هذا الكيان المسخ في قلب الأمة وتمكينه- بدءًا من وعد بلفور وسايكس بيكو والكتاب الأبيض وصولًا إلى الربيع العبري- ليس احتلالًا وهيمنة فحسب بل "فيتو" غربي على عدم وحدة الأمة أو تضامنها أو نهوضها بشكل كامل أو جزئي أو حتى فردي، ولا يحتاج النهار إلى دليل حين نستعرض المؤامرات على الأقطار العربية الحيوية وتحطيمها كنماذج وقدوات قد تحرف بوصلة العرب عن التبعية والانبهار بالسيد الأبيض في لحظة تاريخية فارقة.
وحين نبينُ الفارق بين التطبيع والسلام، فعلينا استعراض اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة، لنعلم هل هما شيء واحد؟ والجواب: السلام يحفظ للدولة كيانها وقرارها السيادي، كما ينص القانون الدولي، أما التطبيع مع الكيان فينتزع السيادة ويستبيح الكيان السياسي ويتدخل في أدق التفاصيل بذريعة تطبيق الاتفاقيات وملاحقها وتفسير بنودها، إلى درجة أن التطبيع لا يسمح للدولة المُطبّعة مع كيان العدو حتى بالتعبير عن موقف سياسي بقطع العلاقات أو تقليل التمثيل الدبلوماسي أو استدعاء السفير للتشاور، وهي قواعد عامة مُتعارف عليها في الأعراف الدبلوماسية والعلاقات بين الدول. ناهيك عن تدخل العدو الصهيوني في المناهج والثقافة وتسليح الجيوش المُطبّعة معه ومتابعته لأي إجراء أمني يتعلق بالأمن القومي للدول.
أنا هنا كمواطن عربي خليجي أتساءل: هل تستطيع أقطار الخليج المُطبّعة مع الكيان الصهيوني "غدًا" منع تملك الصهاينة للعقارات وتمتعهم بالإقامات الدائمة بها والاستثمار في أسواقها بموجب القوانين الخليجية السارية؟! وما موقف أقطار الخليج من تدفق مئات الآلاف وربما الملايين من الصهاينة واستيطانهم الدائم فيها بصفات ملاك عقارات ومستثمرين؟! وماذا يمكن أن تفعله أقطار الخليج حين يُطالب هؤلاء الصهاينة بالجنسية وحقوق المواطنة بعد حين من الدهر؟! مجرد أسئلة بريئة تناسب عقليات تسطيح التطبيع وتسويقه.
حين قتل قابيل أخاه هابيل، بعث الله له أضعف مخلوق وهو الغراب ليعلمه كيف يواري سوءة أخيه، واليوم يُرسل الله لنا لبنان أصغر قُطر عربي ليعلمنا معنى الكرامة وكيفية استرداد الحقوق المغتصبة، فهل من متعظ؟!
قبل اللقاء.. القبول بالتطبيع يطابق تمامًا مقولة الشهيد العربي الفلسطيني غسان كنفاني: "يسرق منك خبزتك ثم يعطيك نصفها ويقول لك عليك أن تشكرني"!
وبالشكر تدوم النعم...