العزة والكرامة قبل السلام

حمد بن سالم العلوي

لقد عاش العُمانيون على الصَّبر والكفاف والعفاف، وهذا ما يشهد عليه تاريخ عُمان البعيد، ولكن لم يكن هذا مكمنَ ضعفٍ للعُماني؛ فرغم قسوة الزَّمن والظروف المحيطة، إلا أنَّه كان يُكابر ويُنافح حتى يظل كريماً عزيز النفس، بل نَجِد الإنسان العُماني عبر التاريخ ذا كرامة وشهامة ونخوة، ويصبر في المحن ويُحوِّل المحنةُ إلى منِحةٌ، وقد صَمَد عبر السنين في وجه الحروب والغزوات الخارجية، ولقد اضطرته الواجهة الجغرافية لعُمان على المحيطات والبحار أن يكون مُقاتلاً شرساً في وجه الأعداء؛ فأحكم الدفاعات ببناء القلاع والحصون: أكان ذلك على السواحل الطويلة، أو في أمَّات المدن، وإنشاء الجيوش والأساطيل لصد الغزاة، بل وملاحقتهم عبر الجغرافيا البعيدة، ولم يغض الطرف عن الداخل، وظل يقظاً في كل مكان؛ لذلك سيرى الزائر لعُمان الأبراج مُنتشرة على قِمَم الجبال كمراصد دفاعية، وأنَّ نشرها أصبح يمثل ثقافة تُنسب لعُمان، وقد نشرها على مدى الجغرافيا الإقليمية للحماية والدفاع، وأينما كان موطئ قدم للإنسان العُماني.

أمَا وقد أرخت الأساطيل العُمانية صَوَاريها اليوم، فينبغي لصواري الدبلوماسية العمانية أن تُرفع، وأن تكون واضحة الاتجاه، وأن تدفع بالموجهات التوربينية القوية، لا بأشرعة الرياح لتفادي تقلباتها واضطرابها.

ولقد شَهِدَ بعضٌ منا طائفاً من قسوة العيش في ذلك الزَّمان، وعندما أكرمتنا النهضة القابوسية العظيمة بشيء من رغد العيش، لم يُنسينا ذلك شكر الله على فائض نعمه، والعمل على الحفاظ عليها، وها نحن مستمرون على نفس النهج الذي يسير عليه اليوم جلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وَرِيث مجد سلاطين عُمان، ونحن نلتزم نهجاً مستقيماً من الوقار والاحترام تجاه الوطن والإنسان والسلطان؛ بحيث نحفظ القيم والكرامة، والنزاهة والعدالة الاجتماعية.

وإنَّ هذا الإنسان الذي فُطِر على حب المال والجمال والجاه سيظل كذلك، ولكن دون أن يتخلّى عن الضوابط والقيود الشرعية التي تردعه عن التوسُّع في طموحاته، حتى لا يذهب إلى الهاوية الدنيوية والأُخروية معاً، وإن قيم الكرامة والنخوة العربية الأصيلة ظلت تجري في دمائنا كعنصر بشري عُماني، وقد ضمنت حركة جيناتنا الوراثية هذه الأصالة والسَّمت والالتزام الرصين بالقيم والعادات الحميدة، ولا ننفِي ذلك عن غيرنا من الناس، ولكن نحن نحصر هذا الاهتمام في خاصية تهمنا نحن حماة الأمة العُمانية جيلاً بعد جيل، فوحدة عُمان يجب أن تظل محل اهتمامنا -نحن العُمانيين- جمعاً وفراداً، ولا يجب أن نتأثر بتآكل أطراف الوطن، طالما ظل الأصل قائماً، وهو يمثل موضع القلب والعقل لجسم عُمان سليماً معافى.

إنَّ الثبات على المبدأ، والصدق مع الذات، من أهم الركائز والثوابت العُمانية الأصيلة التي عَرفنا بها أنفسنا، وعَرفنا العالم أجمع بها، وتعامل معنا على أساسها، فمن غير المقبول أو المعقول أن يُفاجأ المواطن العُماني اليوم بمواقف كان يجزم بأنها من الثوابت والرواسخ التي يعتزَّ بها، وإن السياسة العُمانية ثابتة راسخة رسوخ الجبال، هذا ما تكرَّس في العقل والوجدان، فلم يتصور أن يتلقَّى مواقف مختلفة تمثل بلده من خلال تغريدات عبر "تويتر"، تساير هوى الآخرين، فيصدمه هذا الطارئ وغير المألوف، فيهزم مع نفسه، قبل أن يهزم أمام الآخرين.

... إنَّ عزيز النفس يفضِّل الموت على الذلة، والجوع على الشبع، ولا يقبل أن يُدخل في المراوغات السياسية، والمزايدات الدبلوماسية العرجاء، وهو قد دأب على تنفُّس عبق الحرية والكبرياء، وهنا أذكر قصة واقعية ورغم بساطتها إلا أنها أثَّرت في نفس الكريم، فقد ذهب رجل كبير السن لزيارة أصدقاء في الجوار القريب من بلدته، ومن عادة الناس عند التزاور إكرام الزئر، فصادف ذلك الوقت عودة أحد الرجال من السفر من أبناء تلك البلدة التي قَدِم إليها الزائر، وقد جلب معه شيئاً مختلفاً عن المألوف (مادة الساقو والشاي) فقدَّم للضيف الساقو بدلا من خبز الرخال مع السمن والعسل، والشاي بدلاً من التمر والقهوة خلافا للعادة، فامتنع عن الأكل واعتبر ذلك حَطًّا من مقامه، فأنشد قصيدة ارتجلها في حينها، قال: "ما ضاري على الساقو وشرب الشاي السّح والسِّيداف يقط وكافي"، توضيح بعض الكلمات لغير العُمانيين: ما ضاري - ما معتاد، والسِّح - التمر، السِّيداف - شجرة برية يؤكل ورقها، فهذا رجل رفض وجبة لم يتعوَّدها، فما بالك بتغير في سياسة ثابتة ومعلومة للجميع، وعمرها أكثر من خمسين عاماً بالطبع.

... إنَّ مُضيِّ زمناً تجاوز سبعين عاماً من الكذب والمراوغة، ومع ذلك ما زلنا نرجو خيراً في التحاور مع قتلة الأنبياء والرسل، وقد جادلوا ربَّهم في ذبح بقرة، وكان الأمر في صالحهم لكشف جريمة قتل، فهل ما زلنا ننتظر خيراً للفلسطينيين من اليهود؟!! وقد زادوا الطين بلة بأن يمنح الطاغية ترامب القدس الإسلامية هدية للفاسد نتنياهو، الذي ينتظر أن يحاكمه شعبه.