"ديمقراطية للبيع".. توثيق لدور الأموال السوداء والسياسات القذرة في تزوير الانتخابات

ترجمة- رنا عبدالحكيم

مثّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" أبرز القرارات في التاريخ السياسي البريطاني المُعاصر، وأسفر عن تداعيات عدة في جميع أنحاء العالم، ليس أقلها في الولايات المُتحدة الأمريكية، وقد كان المال والنفوذ السياسي من العوامل التي عجلت بخروج بريطانيا، إذ إنَّ الأمر كان بعيدًا تمام البعد عن الاعتقاد بأنَّ الخروج وراءه حملة شعبية حقيقية، وهو ما تدعي تقارير وسائل الإعلام غالبًا أنها الدافع وراء "بريكست".

وفي كتابه المثير والعميق، يتطرق الباحث والصحفي الاستقصائي بيرت چيوجيجان، إلى ما هو أبعد بكثير من مجرد تصويت المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي. ويوثق چيوجيجان هيمنة الأموال السوداء على الدول الواقعة على جانبي المحيط الأطلسي، ويكشف كيف تحايلت هذه الأموال في إفساد الآلية الديمقراطية. ويشير المؤلف كذلك إلى الجيل الجديد من قادة الاتصالات السياسية الذين جعلوا "البيانات" سلعة لا تُقدَّر بثمن في السياسة، وقد اقتحموا عالم مؤسسات الفكر والرأي في دول المحيط الأطلسي؛ حيث باتت الأموال السرية قادرة على شراء تأثير جدي على مسار الديمقراطية في أي مكان. وأجرى المؤلف في كتابه مقابلات مع كاشفي الفساد والناشطين من أجل الشفافية والنزاهة، حيث يبرز نضالهم الكبير ضد التأثير المتزايد للمال على السياسة، بينما يشير بوضوح إلى عجز المؤسسات الرقابية عن حماية الديمقراطية في ظل الفساد المستشري.

ويغوص الكتاب في شبكة التلاعب بالسلطة والمال والبيانات التي تجبر أي نظام انتخابي على "الركوع على ركبتيه"، في إشارة إلى إجهاض الديمقراطية. ويحاول الكاتب أن يجيب على سؤال مهم وهو: كيف يمكن أن يفشل النظام الانتخابي الحالي في بريطانيا؟ ويرى أنَّ الإجابة تتألف من 3 مكونات؛ الأول: التركيز الهائل لقوة الشركات والثروة الخاصة الذي كان جاريًا منذ سبعينيات القرن الماضي، جنبًا إلى جنب مع زيادة في عدم المساواة، والاستبعاد الاجتماعي، وحالة الاستقطاب المتفشية في معظم المجتمعات الغربية. بينما الجزء الثاني من الإجابة يتمثل في الاختراق المذهل لـ"الأموال السوداء" في السياسة الديمقراطية للدولة. والثالث هو التحول الثوري في بيئة المنظومة المعلوماتية التي تنظم الديمقراطية، وهو التحول الذي جعل القوانين التي يُفترض أنها تنظم الانتخابات، غير ملائمة تمامًا للظروف الحديثة.

وفي المملكة المتحدة، أظهرت الدراسة التاريخية التي أجراها مارتن مور بعنوان "Democracy Hacked" أو "قرصنة الديمقراطية" كيف أنَّ الحكومات الاستبدادية والنخب الثرية والقراصنة غير المعروفين، وخلال دورة انتخابية واحدة فقط، اكتشفوا كيفية اللعب في الانتخابات وتجاوز العمليات الديمقراطية وتحويل شبكات التواصل الاجتماعي إلى "ساحات قتال".

ويتضمن الكتاب كيفية تشكيل مزيج خبيث من الأيديولوجية اليمينية والمال السري (الكثير منه من الولايات المتحدة) واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح لتشكيل السياسة البريطانية المعاصرة (وإلى حد ما الأوروبية). فقد تمكن هذا المزيج الخبيث من تنفيذ ذلك فيما تبين أنَّه فراغ تنظيمي مع القوانين والعقوبات والسلطات الإشرافية التي لم تعد ملائمة.

ويتسم الكتاب بالتنظيم الزمني والموضوعي، فيبدأ باستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأنواع مختلفة من المُمارسات البغيضة التي حدثت خلال ذلك الاستفتاء الذي كان محكوماً عليه بالفشل؛ بدءًا من المخالفات المختلفة لإجازة التصويت، مرورًا بالإنفاق الباهظ لأرون بانكس (رجل الأعمال والسياسي البريطاني البارز ومؤسس حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي) إلى التفاصيل المُذهلة للأموال السوداء التي تمَّ تمريرها من خلال سياسة الانتداب في أولستر، بجانب الثغرة في قانون الانتخابات بأيرلندا الشمالية. لكن أحد أكثر الأجزاء المحبطة في هذا الكتاب ما يصفها الكاتب بـ"اللامبالاة اللطيفة" من قبل معظم وسائل الإعلام في المملكة المتحدة تجاه هذه الأحداث الفاضحة. إذ لولا موقع openDemocracy (الذي يعمل فيه الكاتب)، فإنَّ الكثير من هذه المعلومات لم تكن لترى النور أبدًا.

ويستكشف الجزء الأوسط من الكتاب كيف تسببت الأموال السرية في تضخيم التأثير المتزايد لليمين الأمريكي على السياسة البريطانية، وتأثير الأيديولوجيا النيوليبرالية على الانتخابات. بينما يتفاعل الجزء الأخير من الكتاب مع التحول في نظام المعلومات الإيكولوجي بالمملكة المتحدة، والطرق التي تمَّ بها تسليح آلات الإعلان المستهدف المؤتمتة لمنصات التواصل الاجتماعي من قبل الجهات اليمينية لتقديم رسائل مُعدة بدقة إلى الناخبين، بطرق مُبهمة تمامًا تنطلي على الجمهور العام وكذلك الجهات التنظيمية.

وتكمن أهمية هذا الكتاب الرائع في قدرته على إبراز أنَّ نزاهة الانتخابات ومصداقيتها مطلب أساسي لأي ديمقراطية فاعلة، لكن الجمع بين الأموال السوداء غير الخاضعة للمساءلة وغير المبلغ عنها واستخدامها لبث رسائل سياسية مستهدفة (ومتناقضة) للأفراد والجماعات يعني أنَّه ليس لدينا طريقة لمعرفة كيف أصبحت الانتخابات البريطانية حُرَّة ونزيهة.

تعليق عبر الفيس بوك