ماذا يبقى لأجيالنا القادمة؟!

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

يُحدِّثنا التاريخُ الإسلاميُّ أنه عندما غنم المسلمون الأراضي الزراعية الواسعة (أراضي السواد) في الشام والعراق، طلبوا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُقسِّمها على الغانمين باعتبارها غنيمة، بعد أن يُخرج منها الخمس توزِّعه الدولة طبقاً لـ"واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خُمسه…"، وتوزَّع بقية الأربعة أخماس على المقاتلين، رَفض عُمر، ورأى أن الأراضي الزراعية ليست من الغنائم التي تقسَّم على الأفراد، بل تبقى بيد أهلها المزارعين يدفعون غلتها السنوية، وتشكل مورداً مستداماً للموازنة العامة للدولة، يُصرف منها على الاحتياجات العامة، لكنهم رفضوا وحاججوه قائلين: كيف تمنعنا حقا منحنا الله؟ فقال: بيني وبينكم لجنة من المهاجرين والأنصار حكماً، فوافقوا. وانتهت اللجنة إلى رأي عمر.

الشاهد من هذا الحدث التاريخي، أنَّ أقوى الأدلة التي رجحت رأي عمر، استشهاده بالآية: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان"، مستنتجاً أن الآية استوعبت جيله والأجيال بعده، فقال: كيف أوزعها عليكم وأترك من يأتي بعدكم، وماذا يبقى للأجيال القادمة؟

هذه الرؤية الاقتصادية الاستشرافية المستوعبة لمستقبل الأجيال القادمة، هي التي ينبغي أن تحكم رؤيتنا لمستقبل الاقتصاد الخليجي.

إذ يقوم الاقتصادُ الخليجيُّ على مصدر إنتاج أحادي، وهو فضلا عن أنه مصدر ناضب وغير مستدام، فإنه مُعرَّض لتقلبات السوق الخارجية، كما كشفت عنه تداعيات جائحة كورونا، وهذا يجعل الاقتصاد الخليجي تحت رحمة الخارج ومرهونا بتقلباته.

ومسؤولياتنا كآباء عن الأجيال القادمة، وكحكومات ومجتمعات، تأمين مستقبل أبنائنا وأحفادنا، وهذه المسؤولية وطنية ودينية وأخلاقية، كما أنها مسؤولية مزدوجة:

- الأولى: مسؤوليتنا عن تنويع مصادر الدخل العام: فالملاحظ أنه رغم كثرة حديث المسؤولين والوزراء المعنيِّين بالشأن الاقتصادي الخليجي حول تنويع مصادر الإيرادات والدخل للدول الخليجية، وأن النفط لن يكون القوة المحركة في مستقبل الاقتصاد الخليجي، ورغم تبني الحكومات الخليجية لإستراتيجيات التنويع الاقتصادي، بهدف تقليل الاعتماد على القطاع النفطي وتفعيل القطاع غير النفطي، إلا أن النفط لا يزال هو الدم الغالي الذي يسيل في شرايين وأوردة الحياة الاقتصادية الخليجية، ولا يزال التنويع الاقتصادي تحديًا صعبًا أمام معظم الحكومات الخليجية، ولا يزال شعاراً إعلاميًّا أكثر منه واقعاً اقتصاديًّا.

* رفع مساهمة القطاع الخاص: فكما هو معروف في عالم المال والتجارة، فإنَّ الحكومة تاجر سيّئ؛ فعلى الحكومات الخليجية تخفيف هَيمنتها على النشاط الاقتصادي والخدمي، وإفساح المجال للقطاع الخاص بإدارته، ليصبح الشريك التنموي الرديف للدولة في تحريك الحياة الاقتصادية وخلق الفرص الوظيفية لشبابنا، أُسوة بالحاصل في الدول المتقدمة؛ حيث يُشكل القطاع الخاص المحرك الأساس للنشاط الاقتصادي لا الدولة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، وطبقاً للخبراء الاقتصاديين الخليجيين، فإنَّ تنويع المسار الاقتصادي هو من مهام القطاع الخاص الذي ينبغي أن ترتفع مشاركته في الناتج المحلي؛ وذلك برفع القيود الإدارية والسياسية المكبلة لحركته، وتهيئة المناخ الاقتصادي المحفز لإطلاق وتطوير طاقاته الإنتاجية في السلع والخدمات، ورفع قدرته التنافسية في الخارج، ويجب ألا ننسى أن القطاع الخاص الخليجي كان قبل البترول هو المنتج الرئيس للثروة وتنويع الموارد والمحرك للاقتصاد.

- الثانية: مسؤليتنا عن تخفيض وترشيد الإنفاق العام: فمسؤولية الدول الخليجية عن الأجيال القادمة تقضي بتخفيض المصاريف ووقف الهدر والكف عن صرف المال العام في دعم مشاريع تستنزف الموارد ولا تضيف عائداً اقتصاديًّا إلى الإيرادات العامة؛ إذ لا جدوى اقتصادية حقيقية لمشاريع التوسع العمراني إذا شكل عبئاً على الموازنات العامة.

وأخيرًا.. مسؤولياتنا الوطنية والدينية والأخلاقية تقضي بأنه لا يحق لجيلنا التنعُّم برغد العيش على حساب أجيال المستقبل، وإلا صِرنا جيلاً "انتحاريًّا" يشتري حاضره بمستقبل أجياله، كما لا يحق لحكوماتنا بحجة سد عجوزات الموازانات وإرضاء الجيل الحاضر، الانزلاق إلى دوامة الديون والقروض الخارجية لتتراكم، ومن ثم توريثها للجيل القادم وإرهاقهم بها؛ ذلك خطيئة أخلاقية كبرى، كما لا يحقُّ لها المساس بالأصول السيادية وتسييلها "احتياطيات الأجيال القادمة".

* كاتب قطري