بيروت لن تموت

عبدالله الفارسي

 

طبعاً كل الأقلام وكل الصحف وكل النشرات وكل القنوات تتحدث عن انفجار مرفأ بيروت، الجميع يتحدث عن هول الدمار وفداحة الخراب، ويكاد يجمع الجميع على أن لبنان انتهى، ولن تقوم له قائمة!

لا.. هذا لن يحدث أبدًا، فالنقطة التي أثارت قريحتي وأشعلت بصري وفتحت بصيرتي في انفجار مرفأ بيروت ليس الآثار الاجتماعية وليس الخسائر الاقتصادية التي سيُعانيها الشعب اللبناني، لا أبداً. فالشعب اللبناني اعتاد على الجروح وتكيف مع الانكسارات واستمرأ الأوجاع وتأقلم مع تدهور الليرة، وانسجم مع الغلاء والكساد والفساد. لبنان حاله كحال أغلب الدول العربية الفاسدة والتي ينخرها الفساد حتى النخاع، وينهشها العفن درجة الصداع.

لكن الشعب اللبناني من المُستحيل أن ينكسر، فلبنان الذي ضحى بالكثير من كتابه ورجالاته وأحراره وصحفييه الأحرار طوال المائة عام الماضية من أجل كرامته وحريته لا تطفىء شمسه سحابة من الدخان الكثيف والغبار الأسود. لبنان لم يخسر شيئاً إذا فقد 10 مليارات دولار وهي إجمالي الخسائر المتوقعة من انفجار مرفأها، فهذه الـ10 مليارات دولار تسرق في شهر واحد في أغلب الدول العربية! بل مئات المليارات تنهب سنوياً من خزائنها، وثلاثة أرباع شعوبها يُعاني أكثر مما يُعانيه الشعب اللبناني.

ومنذ لحظة الانفجار وأنا أتابع كل القنوات الإخبارية، أتابع الأصوات اللبنانية التي تتكلم وتصدح في وسائل الإعلام العالمية بكل ثقة وشموخ وغيرة وحب وغضب وروعة وجمال وثبات. لم أرَ أو أسمع طوال هذا الأسبوع محللا لبنانيا واحدًا كان على مستوى متدنٍ من الوعي الفكري والهزالة العلمية والهشاشة الثقافية والركاكة اللغوية، لم أسمع لغة الخنوع والموت والانصهار والذوبان في نبرات أصواتهم؛ كانوا شامخين شموخ شجرة الأرز رغم هول الكارثة.

اللبنانيون قمة في الثقافة وذروة في الوعي وهامات في الفكر. لبنان يملك عقولاً عجيبة، لبنان يحضن نوابغ عظيمة.. مثقفون رائعون، ومفكرون عمالقة وشعراء فطاحل، وكتاب عالميون، وأطباء محترفون في كل أنحاء العالم.

إن شعبا يملك كل هذه الثروة العلمية والعقلية لا يموت أبدًا، ولا يمكن أن يموت بسبب انفجار زرعه الأغبياء، وتسبب فيه الحمقى والعملاء.

لبنان لن يموت؛ فالحب غير العادي الذي يملكه اللبناني لوطنه وبلده كفيل بإطفاء كل الحروق، وتشييد كل الجسور، وترميم كل الدمار. فخلال يومين فقط، تنظفت بيروت من كل مخلفات الانفجار، وفتحت الشوارع، وتنفس الناس هواء نقيا، واستنشقوا أملا جديدا. وكل ذلك بفضل حب اللبنانيين لبعضهم البعض، وعشقهم لوطنهم وبيروتهم.. كل ذلك بسبب الوعي الذي يملكه الشعب اللبناني والفكر المزروع في عقله وقلبه.

عمومًا، لبنان لن ينتهي ولن يلفظ أنفاسه الأخيرة ولن يصل إلى مستوى العراق وليبيا وسوريا وحتماً لن يصل إلى درجة اليمن الحبيب. لبنان سيُواصل الحياة كبقية الوطن العربي المنكوب المخنوق، سيُواصل حياته متوجعا، منهكا، مجروحا، متألما، ولكنه لن يموت!

بيروت لن تموت، لكنها ستُواصل طريقها عرجاء عرجاً بيناً فترة طويلة من الزمن، تناغماً وتضامناً مع شقيقاتها عواصم الوطن العربي العرجاء والعمياء والخرساء.

لقد كتب لهذا الوطن العربي المنكوب أن يكون من أصحاب "الاحتياجات الخاصة" وأن يعيش كذلك.

إن الشعوب الجاهلة والأوطان المتخلفة هي التي تموت بسرعة وإن امتلأت خزائنها بالدولارات وغصت صناديقها بسبائك الذهب، فالثروة الحقيقية للشعوب هي عقولها وفكرها، وليست جيوبها أو مخازن قمحها المستورد. القمح اللبناني الذي ضاع وتساوى بالتراب واختلط بنترات الأمنيوم والبيوت التي تهدمت والسيارات التي تكسرت والمصابيح التي انطفأت، كلها بشيك واحد فقط سيتم تعويضها، واستبدالها بالأفضل.

الأرواح فقط هي التي لا تعوض، نعم، فليرحم الله من كان موعده مع الموت في ذلك اليوم.

لبنان جبران وأبو ماضي والريحاني ونعمة الله الحاج وإلياس فرحات وفوزي معلوف ورشيد أيوب وميخائيل نعيمة وإسكندر كرباج وليلى بعلبكي وهدى بركات وجمانة حداد وسوزان عليون.. لن يموت أبدا.

لبنان المطابع.. لبنان الفكر.. لبنان الإبداع.. لبنان الثقافة.. ما زال مضيئًا، وإن تكسرت أعمدة مصابيحه وانطفأت أضواؤه، وتعطلت مطابعه.

فعقول لبنان مضيئة وقلوبها متوهجة لا تنطفئ أبدا، وليرحم الله أوطاناً لا تملك علوماً ولا تدخر فكراً ولا تقتني عقولاً!