لبنان كعادته يواجه التحدي ويتجاوزه!

 

عبد الله العليان

تعرّفت على لبنان والحراك السياسي والفكري من خلال صحافته، في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ إذ لم نطلع على الصحافة العربية إلا في أواخر الستينيات من خلال بعض بقايا بعض الصحف، عند بعض البائعين للحلوى في سوق صلالة خاصة، أو من بعض المسافرين العائدين إلى بلادهم، بين عامي 1967ـ 1969.

وبعد التغيير، وتولي المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- فتحت الأبواب للصحف والمجلات، وبعدما عملتُ في مكتب الإعلام بصلالة؛ حيث كانت تأتي الصحف والمجلات اللبنانية إلى مكتب الإعلام بصلالة، ومن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية، ومنها حتى بعض الصحف اليسارية، ومؤيدة الثورة، مثل صحيفة "المحرر"، و"الحرية"، وكانت صحيفة "النهار" الليبرالية أبرز الصحف العربية اللبنانية، في تلك الفترة بحكم الحريات الممنوحة للصحف، وتعدد الكتاب واتجاهاتهم الفكرية داخل الصحيفة نفسها. وكانت هناك صحف أخرى أيضا بارزة؛ مثل: "الأنوار" اللبنانية ذات التوجه القومي الناصري، وغيرها من الصحف، ذات التوجهات الفكرية والسياسية المختلفة.

كنت أستغرب من قوة الصحافة اللبنانية في نقدها للسياسة الداخلية للبنانية، وعندما تضع صور "كاريكاتيرية" للزعماء ونقدهم بطريقة ساخرة، والأهم من ذلك في هذه الصحف، التعددية الفكرية في هذه الصحافة؛ فمثلاً صحيفة "النهار" الليبرالية البارزة كان يكتب بها من كل التوجهات الفكرية، مع حراك فكري وثقافي باهر في الساحة الداخلية، إلى جانب اهتماماتها العربية وأعطتها الجانب المهم في متابعاتها الصحفية، لذلك فقوة الصحافة في لبنان في ذلك الوقت، تمثل قوة سياسية لهذا البلد الصغير، المهم تأثيراً في محيطه العربي، لكن مع ذلك عانى لبنان من أزمات سياسية كبيرة، بسبب التركيبة الطائفية سياسيًّا، وهذه بلا شك أدت لصدامات وخلافات واقتتال بين هذه الأطراف، بين الفترة والأخرى، منذ خمسينيات القرن الماضي.

أول هذه الأزمات الثورة ضد الرئيس كميل شمعون في ربيع مايو 1958، عندما أراد إعادة انتخابه مرة ثانية، لكن القوى السياسية رفضت ذلك، مع بروز الخلل في المحاصصة الطائفية، لكن السبب الأهم في هذه الأزمة التوجه السياسي من الرئيس كميل شمعون، ضد التوجه القومي للسياسة الناصرية، وقيام الوحدة بين مصر وسوريا، وانضمام لبنان إلى حلف بغداد، بينما الفرقاء الآخرون من السياسيين اللبنانيين -المسلمين بالأخص- عارضوا هذه السياسة لشمعون، وتوترت الأزمة أكثر وازدادت اشتعالاً، بعد مقتل الصحفي نسيب المتني؛ وهذا يعني أنَّ الصحافة اللبنانية كانت مؤثرة في التحركات والأزمات. الغريب أنَّ نسيب المتني مسيحي ماروني، لكنه ضد الطائفية والانعزالية، التي انتهجها الرئيس شمعون في سياساته، وقامت أرملة الصحفي نسيب، بزيارة السياسي اللبناني صائب سلام، وأورد ذلك في مذكراته؛ إذ قالت له: "صائب بك زوجي راح شهيد وطني، وإذا كان ما عندكم رجال تثأر له.. إحنا النسوان حاضرين"!

واشتعلت الأوضاع والاشتباكات في شوارع بيروت، وطلب الرئيس شمعون قوات أمريكية لحمايته ونزلت في بيروت، بزعم أن المسيحيين في خطر من المسلمين، والقضاء على النظام القائم، لكن البطريرك الماروني بولس بطرس المعوشي، واللواء فؤاد شهاب قائد الجيش اللبناني، وقفا ضد محاولات شمعون جر البلد إلى صراع داخلي، يدمر لبنان ويخسر الجميع، واشتدت الضغوط على شمعون مما أدى إلى استقالته، وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للبنان، ورشيد كرامي رئيسا للوزراء، وانتهت الأزمة، وانسحبت القوات الأمريكية بعد عدة أشهر.

واستعاد لبنان عافيته بعد تلك الثورة، ثم جاءت الأزمة الكبيرة، التي عصفت بلبنان في 1975، بعد التوترات التي جرت بعض الميليشيات التابعة لحزب الكتائب الذي يرأسه بيار الجميل، وميليشيات حزب الوطنيين الأحرار برئاسة كميل شمعون، وبين بعض الفصائل الفلسطينية، وتحولت الأزمة إلى حرب أهلية بتدخل بعض التيارات اللبنانية، ودارت حرب حقيقية، ثم تدخلت القوات السورية، مع الرئيس سليمان فرنجية الموالي للكتائب والوطنيين الأحرار. واستطاعت سوريا أن تحسم الحرب لصالح فرنجية وأنصاره، حتى انتهت ولايته، وتوقفت الحرب، لكن الصحافة اللبنانية وجهت لها ضربة قاصمة، وهاجر أغلب الصحفيين إلى أوروبا، لكن الأوضاع في لبنان لم تهدأ بعض الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان ضد المقاومة -منها: الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982- وفُرضت الهجرة على المقاومة الفلسطينية، لكن تأسست مقاومة لبنانية ممثلة في حركة أمل، ثم بروز "حزب الله" كقوة مقاومة مهمة ومؤثرة في لبنان، ضد إسرائيل.

لكن بقي لبنان يعاني من التركيبة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، إلى جانب الدور الإسرائيلي في محاولة زرع بذور الشك والتوتر بين الفرقاء، خاصة مع قدرة المقاومة اللبنانية على صد إسرائيل وعدم نجاحها في بعض مخططاتها.

غير أن التحول الأخير الذي جرى بين كتلة ميشيل عون، وحزب الله، أدى إلى تولي ميشيل عون رئاسة الجمهورية بعد عدة سنوات بلا رئيس! مما عزز التوافق وهدأت الأزمة، وأعتقد أن ما جرى في مرفأ بيروت مؤخراً، وما سيجري، لن يجعل لبنان بلداً منعزلا ومنزويًا، فله قدرة على تحدي الواقع وإشكالياته، لكن أزمة التركيبة السياسية الطائفية القائمة، تحتاج إلى توافق جديد، ينهي الكثير من التراكمات السياسية القديمة.