جمال الكندي
كارثة مرفأ بيروت قبل عدة أيام صنعت الحدث الإعلامي والسياسي في لبنان وقبل أن نشرع في تفصيل ذلك نود أن نقف مع لبنان في أزمته التاريخية هذه، التي ربما لا تضاهيها إلا أزمة سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي دمرت وقسمت هذا البلد عمودياً. وقوفنا مع لبنان ليس مع حزب مُعين على حساب آخر، ولكن مع اللبناني البسيط الذي عانى ويُعاني من الانقسامات السياسية في بلده التي أثرت على معيشته، فجاءت هذه الكارثة لتزيد من ألم هذا الشعب، فمعهم نقف ونساند ونعزي ونقول "كلنا لبنان".
إنَّ ما حصل في مرفأ بيروت كان مادة إعلامية غنية للتداول، فمن خلالها كشفت الأوراق السياسية التي تحمل أجندات معروفة، وتتحدث بلسان الأمريكي الذي لا يهمه في هذا البلد إلا أمن إسرائيل ومصلحتها الاقتصادية فبانت نوايا شخصيات في الداخل اللبناني وفي الخارج، فقد تم تناول فاجعة لبنان بمسارين مختلفين إعلامياً وسياسياً، فبرز بذلك أمام الشارع اللبناني والعربي تياران مختلفان صنعتهما التباينات السياسية اللبنانية، وهي تراكمات سنين الحرب اللبنانية وما بعدها، وكنَّا نعتقد أنَّ مثل هذه الكوارث سوف تذيب ثلوج الاختلافات السياسية وتقدم المصلحة الوطنية وتجعلها فوق كل اعتبار، ولكنها جعلت من كارثة لبنان منصة جديدة للمناكفات السياسية وتسجيل النقاط الحزبية على حساب الوطن.
الإعلام كما هو معروف البوابة لفهم ما يدار في كواليس السياسة فقد أظهر لنا بوضوح عمق الاختلاف اللبناني في التعاطي مع هذه الكارثة الوطنية، هذا التباين كان واضحاً من وسيلة إعلامية إلى أخرى، فبعض وسائل الإعلام أظهرت من خلال هذه الكارثة أجندتها السياسية، والتي للأسف مرتبطة بالخارج، ومنها نزع سلاح المُقاومة اللبنانية، والدعوة إلى استقالة حكومة حسان دياب وبعض هذه الأصوات الإعلامية والسياسية تحاول أن تخلق من هذه الأزمة الوطنية فتنة جديدة في لبنان، وذلك بالقول إنَّ المقاومة اللبنانية تخزن سلاحها الصاروخي في مخازن بمرفأ بيروت، وبالتالي فهي تُهدد بيروت من هجوم إسرائيلي محتمل بسبب هذه الصواريخ، وطبعاً هذه الرواية ترددها إسرائيل منذ زمن ولها أهدافها السياسية في ضرب استقرار أي حكومة لبنانية بها وزراء من "حزب الله"، وقد تم تفنيدها جملةً وتفصيلاً من قبل حسن نصر الله الأمين العام للحزب.
الاستثمار السياسي لكارثة لبنان كان سريعاً جداً فزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان قبل أي رئيس أو مسؤول عربي أو غربي آخر له دلالاته السياسية، ففرنسا تريد أن تقول إن لبنان بلد مهم عندنا، واستقرارها السياسي والاقتصادي من أولوياتنا، ومثل هذه الكارثة ستزيد من انقسام البلد، فكانت حماسة الرئيس الفرنسي لمساعدة لبنان موضع انتقاد لدى معارضي "ماكرون" الذين شبهوه بأنه يتكلم كأنه حاكم لبنان وحذروه من التدخل في السياسة اللبنانية.
إن الرئيس الفرنسي وغيره يريدون استثمار هذا الحدث سياسياً واقتصادياً، لذلك كانت زيارة ماكرون السريعة للبنان قبل أي رئيس آخر وهي عليها علامات استفهام كبيرة ربما تريد فرنسا بذلك أن يكون لها دور في حلحلة الأزمة السياسية القائمة بين قوى 8 و14 آذار، وإيجاد توافق بينهما لتشكيل حكومة وحدة وطنية لمواجهة تداعيات كارثة مرفأ بيروت، فكانت زيارة "ماكرون" اللافتة للفريقين، وهذا الأمر يختلف جذرياً عن الإدارة الأمريكية حليفة "قوى 14 آذار" التي دائماً تهاجم قوى 8 آذار، وتحاول الضغط لاستبعاد شخصيات من "حزب الله" في أي حكومة لبنانية، أو ربما هي ناقلة لرسالة معينة للحكومة اللبنانية من وراء هذا الانفجار، فمسألة المطالبة بتحقيق دولي لها أبعادها السياسية التي تريد تدويل مثل هكذا قضية والمساومة عليها مثل قضية مقتل رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق "رفيق الحريري" وفرضية أنَّ التفجير ناجم عن فعل مازال قائماً وستوضح التحقيقات اللبنانية ذلك من عدمه، فمعطيات قلب الأوراق السياسية في لبنان وخارج لبنان مازالت قائمة. لذلك النظرية تقول "فتش عن من له المصلحة من هذا التفجير" ليبني عليها سياسة جديدة في المنطقة عجز عن تنفيذها في السابق.
من هنا نسأل: ماذا تريد فرنسا من هذه الزيارة السريعة؟ وهي حليفة أمريكا وتتناغم مع سياساتها الخارجية، هل هنالك صفقة جديدة تتولها فرنسا بأوامر أمريكية وبشروط معينة تملى على المقاومة اللبنانية؟؟ لتكون فاجعة مرفأ بيروت هي البوابة لمشروع سياسي واقتصادي جديد يخطط للبنان والمنطقة، والأيام القادمة وحدها كفيلة ببيان ذلك وكما يقال "الذئب لا يهرول عبثاً"؟!
بالمقابل هناك إعلام ومحور سياسي في داخل لبنان وفي الخارج قابل كارثة مرفأ لبنان بالدعوة للحمة شعبية وطنية لبنانية عابرة للطوائف والأحزاب تجاه هذه الأزمة، واستثمارها في وحدة الصف المتآكلة أصلاً بفضل المحاصصة الطائفية في بنية السياسة اللبنانية، فكانت هذه الكارثة منصة لمن يريد الخير للبنان، ويرفع شعار لبنان أولاً وثانياً وأخيراً وأن تكون المصلحة الوطنية هي الأولوية الأساسية وليست الحزبية، فما أصاب لبنان هي كارثة وطنية بمعنى الكلمة وتحتاج إلى الوقوف خلف الوطن وليس خلف الشعارات الحزبية التي دمرت لبنان.
هذا التوجه هو الاستثمار الناجح والمثمر الذي تدعو له القوى الوطنية في لبنان بعد هذه الأزمة، فهذا الانفجار لم يميز بين قوى سياسية معينة في هذا البلد، بل الشهداء والجرحى والمفقودين كانوا من جميع المشارب اللبنانية، لذلك لابد أن تكون الوقفة منهم جميعاً تجاه الوطن، كذلك المحاسبة تكون لمن أخطأ كائناً من كان وتسبب في هذه الكارثة، ولا يهم لمن ينتمي من الأحزاب بذلك فقط تتحقق اللحمة الوطنية ويتسيد القرار الوطني النابع من مصلحة لبنان أولاً التي هي فوق كل اعتبار، وربما تنطبق المقولة الشهيرة على حال اللبنانيين "رب ضارة نافعة" إذا تحققت المصلحة الوطنية وتصالح الشارع اللبناني، وكون من خلال هذه الأزمة بنية وطنية ثابتة قوية شعارها مصلحة الوطن هي الأساس وليس مصلحة الحزب السياسي "وفي الختام نقول "كلنا لبنان" والرحمة للشهداء والشفاء للجرحى والعودة للمفقودين في القريب العاجل.