.. وطار الطير إلى جنة ربه

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

في يونيو من عام 2003 كان أول لقائي به.. شاب ينسلخ من عقده الثالث، ليدخل بوجل عقده الرابع، تكسو وجهه تلك الملامح الهاشمية الدقيقة، شهامة البدو في طباعه، الرضا بعطايا الله تترجمها حركاته وسكناته، شاب غني بأخلاقه الراقية، ترك مقاعد الدراسة باكرا كي يعمل ويعيل أهله.

كان المراسل الممتلىء نشاطا في دائرة المدارس الخاصة حينها، وكأنه في سباق مع الزمن لأن يعمل ويخرج طاقته في كل عمل يسند إليه، لأن مثله لا يبقون كثيرا في هذه الدنيا، وأن أمثاله خلقوا ليخلدوا، لم يخلقوا للفناء، كلما جاء إلى مكتبي أسأله لم لا تكمل دراستك؟ وكأني أراه أمامي الآن وهو يقول: كيف أكملها وأنا في هذه السن؟ لأضغط عليه ومع عمله واجتهاده وحب الجميع له، أنهى طحنون دبلوم التعليم العام، ولن أنسى قدر سعادته يوم أن حصل على النتيجة وجاء يزف إليّ البشرى، لأنها ستكون معينا له لتحسين درجته العمالية، وهذا ما كان ولله الحمد. ورغم أن الزيادة كانت بسيطة إلا أنه كان سعيدا شاكرا.

انتصف عقده الرابع وتزوج طحنون ممن رزقها الله كي تكون رفيقة درب هذا الإنسان الاستثنائي، ورزقه الله بثلاثة أولاد كالأقمار التي تدور في فلك حنان أبوي عجيب، وكلما عاتبته على دلاله الزائد، يرد ليقول إن الله رزقه إياهم وهو كبير في العمر، لتمضي الأيام وأترك مديرية المدارس الخاصة. فيما ظل طحنون متصلا بشكل يومي، كل صباح، ومساء كل سبت، وبعد أن يصل من "سيق" إلى مسقط: فيكتب: "مساك الله بالخير أم تركي، كيف عمي وتركي وإخوانه؟".

هنا.. بهذه الرسالة فهو يطمئني بوصوله إلى مسقط ولله الحمد، لأنه حصل على رخصة القيادة في وقت متأخر، ودائمًا كنت أحذره من السرعة الزائدة، فأرد عليه حامدة ألله على سلامة وصوله، سائلة عن أفراد عائلته، مطمئنة له بأننا جميعا بخير، وبعد مدة قصيرة انتقل إلى مكتب سعادة وكيل الوزارة للتخطيط التربوي والمشاريع، وظل يرسل لي بصور منصور ومدرك ومترف لأعيش مع تلك الأسرة تفاصيل حياتهم الجميلة ببساطتها وعفويتها، وبسبب ضيق العيش اضطر للتقاعد، ليستفيد من مكافاة نهاية الخدمة في سد جزء من قرضه، والعمل في وظيفة حارس في القطاع الخاص. وفي الفترة المسائية يعمل على سيارة أجرة، وهو على هذه الحال لمدة 9 سنوات، إلى أن نزل بالعالم وباء كورونا، واضطر للبقاء في بلدته بسبب الإغلاق المؤقت للمؤسسة التي يعمل بها، فتوقفت رسالة مساء السبت، لكن لم يتوقف، وهو الابن البار، عن التواصل.

أرسل لي برسالته الصباحية في تمام الساعة الرابعة وثلاث وخمسين دقيقة من فجر يوم التروية (الأربعاء) الثامن من ذي الحجة، ورددت عليه في السابعة وست وثلاثين دقيقة، فاستلمها وقرأ الدعاء، ولأنني لم أفتح قائمة تطبيق المراسلات من بعد صلاة الظهر، لم يتسن لي معرفة ما دار من نبأ عظيم.. لكن غصة غريبة كانت تعتمل في صدري، حدسي ينبئني بأنني على موعد مع خبر جلل، فأدحر الشيطان واستعيذ بالله منه، وأدعو الله بالحفظ وطول العمر لمن أعرفهم، فهذه الجائحة جعلت أنباء الموت تتواتر على شاشة التلفاز لمن نعرفهم ومن لا نعرفهم، فكان أن أديت فريضة المغرب، وجلست لأتصفح المراسلات فاستوقفتني رسالة أختي ثريا قبل أن أفتحها، لأنني قرأت استفسارها عن وفاة طحنون، ففتحت الرسالة بسرعة ورعب لأسالها: من طحنون؟ ولم أنتظر ردها، بل سحبت القائمة لأرى عدة رسائل من زوجها بأن طحنون قد توفاه ألله، فقد وجدوه في سيارته في الحادية عشر صباحا، وقد وافته المنية إثر سكتة قلبية...

يا لهول ما أرى!! وأسحب القائمة علّ خبرًا نافيًا يجُب كل ما قرأت قبله، لكني وجدت قائمتي تمتلىء بالتعازي من كل حدب وصوب، في من كان واحدًا من أعز الأبناء البررة، في من لم يُرى وجهه إلا طليقا سمحًا، في من لم يكن إلا مبتسمًا وإن عاركته الدنيا بصروفها، في من كان يستشيرني في الصغيرة والكبيرة، في الطائر الذي رفرفت روحه إلى الجنة لترتوي اليوم من رحمة ربها..

رحل الطائر ذو القلب الأخضر والروح الطاهرة، وتركنا كما قال علي بن أبي طالب عليه سلام الله أن أشد شيء بعد الموت هو الفراق، وإنه لعمري كذلك... رحل طحنون بن خلفان بن ناصر الهاشمي تاركا غصة في قلب كل من عرفه.

---------------------------

توقيع:

"وا كَبدا قدْ تَقَطَّعَتْ كَبِدي،، وحَرَّقَتْهَا لواعِجُ الْكَمَدِ.

ما ماتَ حَيٌّ لِمَيِّتٍ أَسَفاً،، أَعْذَرُ مِنْ والِدٍ على وَلَدِ"

ابن عبد ربه الأندلسي.