"السُّعار" الإعلامي و "التَنمُّر" السياسي

 

 

د. راشد بن علي البلوشي

أستاذ اللغويات المشارك

جامعة السلطان قابوس

يتساءل الكثيرون عن السبب وراء حالة "التنمّر" السياسي الذي يشهده العالم حالياً، وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط، ويعلل البعض ذلك بنظرية المؤامرة ويعللها البعض الآخر بالمطامع الدولية في ثروات المنطقة ويعللها آخرون بقلة النضج السياسي لدى بعض المسؤولين في المنطقة، حتى غدا بعضهم يُدير الدولة وكأنه يدير شركة أو عزبة ويتعامل مع الإنسان وكأنه من سقط المتاع. ولكن هناك سبب آخر.

حيث يبدو أن أحد أسباب ما تشهده المنطقة من تلاسن ومناكفة وخصومة بين بعض السياسيين (وهم المسؤولون عن إدارة الأوطان والشعوب والعلاقات والمصالح والثروات، ولذلك وجب أن يتحلوا بالحكمة) هو الإعلاميون الفاسدون الذين انحرفوا عن روح "رسالة الإعلام" وقرروا التضحية بكل شيء (بما في ذلك الإنسان والأوطان) وهم يطاردون "لقمة العيش"، فباعوا ضمائرهم لإبليس وذممهم لأوليائه من البشر، فجعلوا مصدر رزقهم إشعال الفتنة وتسعير نار العداوة بين الأشقاء، حتى "زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ"، فأصبحوا يرون باطلهم حقاً، وغرتهم شهرتهم، وأصبح ما يروجون له من تضخيم للخلافات وإظهار للاختلافات وتأجيج للصراعات في البرامج التلفزيونية منهجاً يتبعه كل من رام الشهرة والمجد على حساب وطنه وأمته. فكان حظهم في مجال الكلمة أن يأتوا بالمتخاصمين إلى السجال والجدال، حتى يزيدوا بينهم الخلاف والشقاق، أو أن يروجوا لمنهج ضد آخر، بغرض الإقصاء.

     فالمتابع الواعي للكثير من البرامج السياسية في الفضائيات يعلم أنَّها لا تَحُل المشاكل والقضايا التي أُعدت لمناقشتها، ولا تمد المُشاهِد بمعلومات جديدة أو مفيدة، فالمادة الإعلامية التي تقوم عليها هذه البرامج موجودة ومتاحة للجميع، ولكن إذا كان الحال كذلك، فمن أين اكتسب هؤلاء المذيعون شهرتهم الكبيرة؟ لقد اكتسبوها من الصراخ والتكذيب والتخوين والاتهام بالعمالة والجلبة التي يحدثها المذيعون وهم يقومون بدور النمّام الذي يقول لأحد المتحاوريْن "إنّ الآخر قال عنك (أو عن فريقك أو طائفتك أو مذهبك أو بلدك) كذا وكذا، فكيف ترد على هذا الكلام؟". فإذا كان ما ينقلونه للطرف الآخر سيئاً فحتماً سيكون الرد أسوأ. وحتى ولو صدّقنا بحسن نيتهم، فهذا ليس عذراً لأنَّ فساد العمل في النتيجة واضح ظاهر لا يختلف عليه اثنان.   

فحالة "السُعار" التي تَسِم الآلة الإعلامية في كل مكان بسبب ما يقوم به هؤلاء المذيعون (بخلفياتهم الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والحزبية ومطامعهم المادية التافهة) قد أدت إلى حالة من "التنمُّر" لدى السياسيين المراهقين الذين يبحثون عن أي شيء يثبتون به وجودهم في عالم السياسة، وهو ما أدى إلى سياسات تتصف بالتهور والعنف والمكر والتضليل والخيانة وقلب الحقائق والتخاصم لأتفه الأسباب مما أدى إلى ما نشهده اليوم من تدمير وتهجير ومآسٍ. فانتقلت فنون المناكفة والمكائد والمتاجرة بالكلام من الإعلاميين الفاسدين الذين يسوِّقون لها بحثاً عن الشهرة والمجد إلى السياسيين المراهقين الباحثين عن الشهرة والمجد كذلك، من خلال أي إنجاز، حتى وإن كان سلبياً أو حتى مدمراً، وكأن مثلهم الأعلى هو هتلر، الذي كان تأثيره في تاريخ هذا الكوكب كبيراً جداً، ولكنه كان سلبياً جداً.

فكما أن الإعلاميين الفاسدين فشلوا في مجال الكلمة الطيبة فقرروا السعي وراء الجدال والتطبيل والصراخ والتهويل (بدلاً من طرح القضايا وتقديم الحلول لها)، فإنَّ السياسيين الفاسدين قد فشلوا في تقديم إنجاز يعم خيره على شعوبهم وعلى البشرية، فانقادوا لإبليس، وأصبحوا مطاياه في كل ما يجر الخراب والويلات لشعوبهم وللبشرية، وكأن الفريقين في منافسة، أيهم يُحْدث تأثيراً أسوأ من الذي يحدثه الفريق الآخر.

أيضاً، وكما أنَّ للسياسيين السلطة (الأولى والثانية) فإن للإعلاميين أيضاً السلطة (الرابعة)، وكما أن السياسيين مسؤولون عما يفعلون، فإنَّ الإعلاميين أيضاً مسؤولون عما يقولون، فالسلطة ترافقها المسؤوليات. فهؤلاء الإعلاميون لم يكتفوا بالإخبار عن الأخبار، وإنما أعطوا لأنفسهم حق توجيه الرأي العام وتضليل الحشود، ومعهم السياسيون المراهقون، فليتقوا الله في ما يفعلون. وليكن لهم درس وعظة في يوزف جوبلز الذي قضى حياته يُزيّن للألمان ما يفعله هتلر (ويزِّين لهتلر نفسه أفعاله) ويرقص ويطبل على جثث ضحايا سياسات هتلر، ومن ثَم قضى منتحراً مع زوجته وأولاده الستة، ليهرب مما اقترفته يداه (بمعنى أنه خسر كل شيء، فما أتت به الرياح ذهبت به الزوابع)، بعد أن خَلف هتلر مستشاراً لألمانيا ليوم واحد فقط. فما من مجد ولا عز ولا طائل في التجارة بالكلام (فهي تجارة من لا سلعة له)، إلا الكلمة الطيبة، وقد عز قائلوها في هذا الزمان كما عزَّ السياسيون الحكماء، فكثُر المراهقون الذين فشلوا في الخير فتباروا في الشر. يقول سيدنا علي ابن أبي طالب: "حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق".

فليقتصر دور الإعلاميين على "الإعلام" بالأخبار، دون تضليل أو تحريض أو تحزب أو تجاهل للحقائق إذا كانت على عكس ما يحبون. وليحذر هؤلاء المذيعون لأنهم مسؤولون عما يجري، مثلهم مثل السياسيين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف بسبب طريقة المذيعين في التعاطي مع الأحداث. فلو توقف الإعلاميون الفاسدون عن التصفيق والتطبيل ربما سيتوقف السياسيون المراهقون عن الرقص.