يوسف بن حمد البلوشي
يتعرض القطاع الخاص، بشكل عام، وقطاع المؤسسات المتوسطة والصغيرة، بشكل خاص، في شتى أنحاء دول العالم إلى أزمة خانقة هي الأسوأ في التاريخ الحديث جراء فيروس كورونا وتداعياته على مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، الذي دفع الحكومات حول العالم لتبني إجراءات غير مسبوقة للتخفيف من أثر الأزمة الوبائية، تضمنت إغلاق الحدود، والسفر الدولي المحدود، وإغلاق الشركات، والمدارس، والتباعد الاجتماعي.
إضافة إلى القيود على قدرة النظام الصحي، والقيود التمويلية التي أدت إلى بطالة هائلة، وفقدان الدخل، وتآكل لرأس المال البشري، وعدم اليقين بشأن المستقبل. ويواجه القطاع الخاص في الدول النفطية أزمه مضاعفة ناتجة عن انحسار الطلب على النفط وتراجع أسعاره، والذي يمثل شريان الحياة ومصدر الدخل الرئيسي لهذه الدول، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرتها على مواصلة الإنفاق العام بنفس الوتيرة المولدة للطلب المحلي، وبالتالي انخفاض الطلب المحلي على السلع والخدمات الذي يعتبر المصدر الرئيسي لدخل القطاع الخاص في تلك الدول والذي يتسم بالاعتماد المفرط على الإنفاق الحكومي.
لست هنا بصدد تشخيص وضع الاقتصاد والقطاع الخاص والذي يُعاني من حلقة مفقودة تربط النمو الاقتصادى المحقق في الحقبة الماضية مع دور فاعل للقطاع الخاص، حيث تخفى معدلات النمو الكبيرة والمرتكزة على الأنشطة النفطية (النفط والغاز) اختلالات جوهرية فى جميع عوامل الإنتاج الأربعة المعروفة (رأس المال، والعمل، وحسن استغلال موارد الأرض، والإدارة). ومن الإنصاف القول بأن حالة ضعف القطاع الخاص ليست مقصورة على السلطنة، حيث تعانى منها جميع اقتصادات الدول الريعية.
ما أود التركيز عليه هو أهمية القطاع الخاص الذي يكافح للبقاء، وحاجته الملحة إلى أوكسجين لمواصلة نشاطه فهو خط الدفاع الأول للاقتصاد والمعول عليه الكثير لتحقيق الرؤية عمان 2040. وهو أحد أهم الفاعلين الأربعة في العملية الإنتاجية ويلعب دورا محوريا في الاستثمار والإنتاج والتشغيل ورفد الموازنة العامة للدولة، وتتعاظم أهميه هذا القطاع في الدول النفطية كالسلطنة في المرحلة القادمة، حيث إنها مطالبة بتحول نوعي إلى نموذج تقوده قاطرات القطاع الخاص المختلفة للعديد من الاعتبارات المرتبطة بالجاهزية ومرحلة النمو وبدء قطف ثمار الاستثمارات الضخمة في المرحلة السابقة والاستغلال الأمثل للبنية التحتية والعلاقات الدولية والتي لن تتحقق بدون قطاع خاص قوي ومتفاعل قادر على الاستثمار والإنتاج والتصدير وهناك اعتبارات ديموغرافية وأخرى مرتبطة بقطاع الطاقة والتقنية ومن جانب آخر تراجع القدرات المالية للحكومات المرتبطة بتراجع إيراداتها النفطية وتزايد الضغوط المتصلة بالدين العام وتدني التصنيف الائتماني والحاجة الملحة إلى خطط إصلاح اقتصادي واضحة المعالم لتوليد فرص عمل للأعداد المتزايدة وتحقيق تحولات نوعية على مختلف الأصعدة.
وكما هو معلوم فإنَّ شركات القطاع الخاص والتي توفر فرص عمل ودخلا للنسبة العظمى من المواطنين في السلطنة في القطاعات المختلفة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن شركات القطاع الخاص العماني توفر أكثر من 260 ألف وظيفة لأبناء هذا الوطن في نهاية عام 2019م، (من وجهة نظري هي مطالبة بتشغيل المزيد من العمانيين وتدعيم قدرتها على المحافظة على ما لديها من عمانيين). تواجه العديد من التحديات المالية وهناك مؤشرات لضغوطات مالية وتأخر في دفع الرواتب والإيجارات وغيرها من الالتزامات والمصاريف التشغيلية وهذه مؤشرات واضحة للإعسار وما يتبع ذلك تلقائياً هو الإفلاس وهذا مرض معدٍ بشكل كبير؛ حيث إنَّ تعرض عدد من الشركات للإفلاس يعني بالنتيجة تعرض عدد كبير من المتعاملين معه إلى ضغوطات وتأثيرات مالية كبيرة، ستتحول إلى مصاعب وضغوطات اجتماعية خطيرة.
ولا يخفى أن هناك عددا من المعسرين الذين تزيد محافظهم الإقراضية عن 300 مليون ريال عُماني من البنوك ومؤسسات التمويل، وهذا يعني تعرض الجهاز المالي والمصرفي (يحتاج هو نفسه لمعالجة جوهرية لتعزيز قدرته على الصمود واستيعابه للمتغيرات ومتطلبات المرحلة القادمة) والذي لا تزيد أرباحه مجتمعة عن 400 مليون ريال إلى زلزال شديد يضع قدرته التمويلية على المحك، كما تتأثر قدرة البنوك بالوضع العام للتصنيف الائتماني للسلطنة والذي يعاني هو الآخر من تدنٍ لارتفاع نسبة الدين العام إلى مستويات كبيرة. والجدير بالإشارة أن تلك التكلفة ستنتقل إلى المقترضين المحليين بما يحد من قدرتهم على الاستثمار والذي نحن في أمس الحاجة إليه.
ولذلك نرى أن دول العالم التي تعي أهمية ودور القطاع الخاص وأن تكلفة مساعدة تلك الشركات على البقاء أقل من تكلفة انهيارها وإعادة بنائها من جديد. ولذلك نجد أن الدول قدمت حوافز إنقاذ وقروضا طويلة الأجل، بأسعار فائدة متدنية لتلك الشركات التي كانت تعمل بكفاءة جيدة قبل أزمة كورونا. وتتحمل البنوك وشركات التمويل مسؤولية توفير تلك الأموال في حين ساهمت الحكومات في العديد من الدول بتحمل كلفة الفوائد على تلك القروض وحوكمة المعايير والإجراءات المنظمة لها. والحديث هنا ليس عن حزم الإنقاذ المتواضعة المقدمة للشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، رغم أهميتها، وإنما الحديث عن الشركات التي لها دور في التشغيل والإنتاج والتصدير. فإذا كانت الحكومات في الدول التي تعتمد على قوى السوق (العرض والطلب) في إدارة اقتصاداتها ويتصف القطاع الخاص بها بالقوة والديناميكية قد تدخلت لإنقاذه من جراء هذه الجائحة غير المسبوقة. فإن الدول النفطية والتي تلعب فيها الحكومات الدور الرئيسي في تسيير عجلة التنمية والأنشطة الاقتصادية مجبرة وأمام خيارات صعبة للتدخل لإنقاذ القطاع الخاص المتسم أصلاً بالهشاشة والاعتماد شبه المطلق على العطاءات الحكومية، والتدخل لحماية حقوق العمال في القطاع الخاص أيضا. نظرا لحاجة الاقتصاد الماسة إليه في المرحلة المقبلة.
هناك أدوار مهمة للحكومة في هذه المرحلة لانتشال القطاع الخاص، على سبيل المثال البنك المركزي العماني ودوره في حماية الجهاز المصرفي والإيمان بأن قوة البنوك ومؤسسات التمويل من قوة عملائها من الشركات. وفي هذا السياق يمكن للبنك المركزي إجراء تقييمات لقدرة البنوك من خلال اختبار الإجهاد (ٍStress Test) للتعرف على مدى قدرة البنوك العمانية على تحمل الخسائر المستقبلية ومواجهة المخاطر المتعلقة بالائتمان والديون، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمعالجة مثل منع البنوك من إجراء توزيعات للأرباح، وإجراء تخفيضات أخرى على نسبة الاحتياطي الإجباري. كما يمكن مع البنوك إيجاد آلية للاستفادة من حجم الودائع الضخم المتوفر لدى البنوك (أكثر من 24 مليار ريال عُماني) من خلال أدوات وأوعية يستفيد المودعون والجميع من خلالها كصكوك وسندات يستفاد منها للظروف الطارئة وتوفير التمويل للتحولات الإنتاجية المنشودة؛ فمن مصلحة القطاع المصرفي تقديم كل الحلول للبقاء وإنقاذ عملائه، من خلال تمديد آجال قروض الأفراد والشركات بدون تكاليف إضافية، وتجميد دفع الأقساط للأفراد والشركات الأكثر تضررا لبضعة أشهر، بدلا من التشدد المصرفي.
في حين يمكن لجهاز الاستثمار العماني العملاق الذي له دور تنموي أصيل وتنضوي تحته كل الشركات الحكومية المنتشرة في جميع القطاعات، مساعدة الشركات الكبيرة الواعدة وتشجيعها على الدخول في شراكات فيما بينها وإعادة التموضع بما يخدم الأهداف التنموية في الأجل المتوسط والطويل وتحويل العلاقة بين الشركات الحكومية والخاصة من التنافس إلى التكامل، وذلك بهدف إعادة هندسة الاقتصاد العماني والدفع قدماً نحو تطبيق العناوين التي تنادي بها الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، والتي لا تتحقق إلا بتفعيل محاور الاستثمار والإنتاج، والتصنيع والتصدير، وريادة الأعمال والابتكار وهذه أدوار أصيلة للقطاع الخاص.
وكذلك الحال بالنسبة لسوق مسقط للأوراق المالية والذي قد يساعد في تنظيم الاندماجات بين الشركات الواعدة لتكوين شركات محلية قوية ويتيح التخارج لمن أراد من المستثمرين. وعلى غرار ما حدث في العديد من الدول تدخل الحكومة لمساعدة شركات القطاع الخاص المتأثرة وخاصة تلك التي كانت أوضاعها جيدة وتعمل بربحية قبل جائحة كورونا وذلك من خلال تقديم حزم إنقاذ سخية لضمان تدعيم قدرتها على التصدي لهذه الأزمة، وهنا ليس الحديث عن منح لا ترد وإنما قروض تسدد على فترة طويلة وتمنح للشركات وفق معايير معينة لتحقيق فوائد اقتصادية. وتوفرها البنوك وشركات التمويل وتتحمل الحكومة الفائدة المخفضة لهذه القروض.
لعلنا لا نتجاوز إذا قلنا إن القطاع الخاص نفسه والذي عهدناه يتحلى بحس وطني عالٍ مطالب بتبني أدوار مختلفة تمكنه من ترتيب أوراقه والاستعداد لتغيير النموذج القائم على التجارة والاستيراد والعمالة الوافدة متدنية المهارة، إلى نموذج قائم على الإنتاج والتصنيع والتصدير والعمالة الوطنية. كما إنه مطالب بتنظيم نفسه بشكل جيد والدخول في اندماجات واستحوذات لتكوين كيانات ومؤسسات كبيرة قادرة على المنافسة وامتصاص الصدمات. كما يحتاج إلى اتخاذ إجراءات تمس تركيبته وهيكلته الحالية القائمة على المحاصصة واستحواذ عدد من الشركات العائلية على معظم أنشطة الأعمال بما يمكنها أن تعمل بمعزل وبدون روابط أمامية وخلفية مع باقي مكونات القطاع الخاص. وكل هذا لن يحدث تلقائيا ويحتاج إلى تدخل استراتيجي من الجهات المعنية وعدم الاكتفاء بالتوجيه والتشجيع وانتظار الحلول من السماء أو الخارج. وفي خضم كل التغيرات والتحولات فقد حان الوقت أن نقلع شوكنا بأيدينا ونمهد الأرضية للانطلاق.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن رؤية "عمان 2040" أفردت مساحة واسعة للقطاع الخاص وهو ركيزة ولاعب مهم لتتحقق هذه الرؤية الطموحة. ومن أبرز توجهاتها الاستراتيجية في هذا الشأن "قطاع خاص مُمكّن يقود اقتصادا تنافسيا ومندمجا مع الاقتصاد العالمي". كما تتبنى الرؤية العديد من الإصلاحات التي تمس جميع عناصر الإنتاج لتمكين هذا القطاع من النهوض لتنفيذ الرؤية والاستراتيجيات القطاعية المختلفة.
وختاماً.. الاقتصاد والتنمية يعملان بترابط وتتابع وتشابك واضح ويحتاج إلى سياسات عامة تغطي المنظور الشمولي لمكوناته وعناصره وتعالج تحدياته المختلفة فكما بدأنا في ترتيب الجهاز الإداري والاستثماري للدولة لابد من أخذ خطوات مهمة في ترتيب أوضاع القطاع الخاص، وأنا على يقين بأنَّ القطاع الخاص يتمتع بحس وطني عالٍ ويدرك رجاله ومؤسساته أهمية دوره في مساندة الحكومة في تحقيق تحولاتها والاستفادة من الموارد والبنية التحتية وشبكة العلاقات الدولية.
إنَّ المسؤولية مشتركة والاقتصاد العماني يقف على مفترق طرق مهم، وفي ظل ظروف استثنائية تحمل الكثير من التحديات وبذور النجاح، وتستلزم وجود مؤسسات قوية وحزمة من السياسات والتدخلات المدروسة. والقاعدة السائدة أننا "إذا عملنا بصمت وسكون سلمنا بأن القضايا تعالج نفسها"، ليس وقتها الآن، إننا نحتاج إلى حالة استنفار وشغف وفكر جديد لمواجهة التحديات الآنية والمستقبلية وصناعة المستقبل الذي نريده لهذا البلد المعطاء.
والله والوطن من وراء القصد.